Sunday, September 9, 2007

أحلامي




أحلامي
هدى حسين







أعرف
أن الوقوف على الحبل
على ارتفاع شاهق
أمر معجز..
أعرف أيضاً
أنه لا يعني الطيران..




أحلامي


عندما كنت صغيرة، حلمت. لم أكن بعد أعرف معنى ذلك. ولا أعرف المرادفة التي تعبر عن هذه الأشياء التي تحدث لي بعد أن أغمض عيني بقليل. لم أستطع أن أسأل أمي: "أماه؟ أنا أحلم. فهل هذا طبيعي أم أنني مريضة؟" لم أستطع، لأن كلمة "حلم" لم تكن بعد دخلت قاموس الكلمات التي أعرفها. لكنها بدأت تحدث لي وأتذكرها. ولا أعرف من اين أتت. الصراحة انني لم اكن أتخيل أن الأحلام تأتي للواحد. كنت أظن أنني عندما أنام يأخذني السرير إلى مكان ما، ثم يعيدني في الميعاد المناسب للاستيقاظ للذهاب إلى الحضانة. لذلك، في الصباح ، كنت آخر من يزيح عن رأسه الغطاء لكي ينزل من السرير: كنت أخاف أن أفتح عيني بينما أنا في أحد الأماكن التي يأخذني السرير لها، فأتوه ولا أعرف طريق العودة إلى البيت وحدي. أفتح عيني بعدما أسمع أصوات كل من في البيت وأميزها جيداً.

وكنت أحب تلك الأماكن وهؤلاء الأشخاص وتلك الأحداث التي يعرفني عليها سريري.. حتى أنني كنت أربت على سطح سريري عندما أستيقظ واشكرها - كنت أظن السرير مؤنثاً – وكنت أظنه أمي. لم أستوعب أبدا في هذا السن أن لكل واحد أم واحدة وأب واحد. كانت أمي أمي، وجدتي لأمي أمي، وسريري أمي، وأسوان أمي، ورأس البر أمي، والشجرة التي ترتكن بجزعها على شرفة حجرة نومي أمي.... وكان أبي أبي. والأقصر أبي، والبحر أبي، وبيانو المدرسة أبي، بل إن القمر الذي أراه يزول في الفجر من شرفة الصالون أبي، كذلك المقعد البني المخملي الوثير الذي أحبه قرب مدخل شرفة الصالون.. كلهم كانوا آبائي.. يبدو لي أيضا أنني لم أكن أستوعب فكرة الأسرة الواحدة. فقد كان لي إخوة أيضاً ألعب معهم، هم الصلصال والتلفزيون والمنبه وعلب دواء جدتي لأمي ومكحلتها النحاسية اللون، الملابس التي أختارها...الخ.. بل وكان لي أطفال أيضاً. أريد إبنا من الشيكولاتة، فآكل الكثير من الشيكولاتة حتى تكبر معدتي وتلدها لي.... وكانت أصابعي لعبي. أصابع يدي وقدمي على حد سواء. أغرسها في أخي الصلصال حتى نلعب بها معاً..أدورها وألففها حول خيوط السكوبيدو صديقي. أجعلها تتحدث إلى أبي البيانو وتحتضن أبي المقعد وتختبر درجة حرارة أمي الشجرة بالضغط على لحائها. وكنت أحيانا أستلقي على ظهري، وارفع رجلي وأجعل من يدي ورجلي اشجاراً تتحدث أغصانها إلى بعضها البعض، عن الغابة التي نمَت على أطرافها، عن الهواء الشديد الذي يعصف بها بحيث يجعل أوراقها (أصابعي العشرين) تعصف على فروعها (ذراعي وساقيّ) التي تتمايل بعنف تكاد معه تنقصف.. هكذا كنت أحاول أن أشكر سريري.. بأن ألعب هذه اللعب فوقه أو تحته، أو مستنده إليه حتى آخذه معي إلى أماكن ما أخترعها له، مثلما يأخذني وأنا نائمة إلى أماكن يعرفها ويطلعني عليها.. لكن أول لعبة جعلته بشاركني فيها، كانت "رأيي". حيث كنت أجلس على السرير أهرش شعري بيديّ الاثنين بينما أخرج لساني وأحاول أن أراه وأن أصدر به أي صوت وهو خارج هكذا عن فمي..

عرفت كلمة رأي قبل أن أعرف كلمة حلم، وكلمة شرود. حدث ذلك في سن الثالثة. كان أبي قد اخترع تقليدا في الأسرة وهو أن يكون هناك ساعتين كل خميس، من الساعة الخامسة حتى السابعة مساءً، يجلس فيها كل أفراد الأسرة الأكبر من ثلاث سنوات. في هذه الجلسة الأسبوعية يقول فيها كل واحد ما يضايقه من الآخر ويناقشه في حضور الآخرين حتى يتوصل المتخاصمان إلى حل يصفوا بعدها الجو بينهما. في هذه الجلسة أيضا يمكن لمن شعر خلال الأسبوع أنه أخطأ في أمر ما، أو هناك أمر يؤرقه طوال السبوع ولا يفهمه أو لا يجد له تفسيرا، أن يعرض على الجميع هذا الأمر ليناقشوه معاً. وفي هذه الجلسة أيضا، نناقش مصروف البيت الأسبوعي، ونختار حسب الظروف المادية وظروف الامتحانات نوع الفسحة الأسبوعية التي سنقوم بها يوم الجمعة.
عندما أتممت الثالثة من عمري. بدأت أداوم على حضور مجلس الأسرة هذا المنعقد أسبوعيا. لم أفهم ما يجري. لكن أبي سألني: "وانتِ ما رايك؟" نظرت إليه ببلاهة واندهاش. لم أفهم معنى الكلمة. كانت أول مرة أسمعها. نظرت لأمي أستفسر. قالت: "يا حبيبتي. هذا أمر طبيعي جدا. تحدثنا هنا عن أشياء ونريد أن نأخذ رأيك". كان ردي بالنفي. قالت أمي: "إذاً أنتِ لا توافقين."
قلت: "طبعاً لا أوافق! رأيي تخصني وسألعب بها وحدي. ولن أسمح لأحد أن يأخذها مني. فقط أرجو منكم إذا كانت فعلا هذه "الرأي" لي، أن تخبروني أين أشتريها وبكم هي حتى أدخر من مصروفي ما يكفي لآخذها معي إلى حجرتي."

كانت أيضا كلمة "مصروف" كلمة جديدة. لكنني عرفتها قبل كلمة رأي، واعتدتها بسرعة. فقد كانت كلمة تتكرر على مسامعي يومياً. قبل الدخول إلى باب الحضانة، يقول أبي :"خذي يا حبيبتي، هذا مصروفك. اشتري به ما تشائين."… كنت أريد أن أشتري رأيي. لكني لم أجده في كانتين الحضانة، ولا عند "عم شعبان" بائع الحلوى المجاور، ذلك الرجل العجوز الطيب الذي لا تفارقه ابتسامته التي تعلن عن فم بلا أسنان تقريباً، والذي كان عنده دائما لبان السجاير، والربسوس والشيكولاتة المسكوكة على هيئة عملات، ولا عند محل "صباح الخير"، محل لعب الأطفال الموجود في ركن الشارع، والذي كنت أظن ان اسم صاحبه "صباح الخير"، هناك كنت أجد الصلصال الذي أحبه، والدفوف البلاستيكية الصغيرة، والبيانو اللعبة الذي يصدر أصواتا تشبه الاكسليفون، والاكسليفون نفسه مثلما أجد خيوط سكوبيدو البلاستيكية الملونة، والخرز وخيط السنارة. لكنني لم أجد رأيي.

لم أستطع الانتظار إلى الاسبوع التالي لكي أطرح محنتي في مجلس الأسرة. بعد أيام قليلة وبينما يأخذني أبي معه مساءً لشراء العيش الفينو والتمشية قليلا بحزاء النيل، قررت أن أخبره بالموضوع. فهو الوحيد في الأسرة الأسمر مثلي تماماً. وكان هذا يعني لي، أنني عندما سأكون في حجمه سأصبح هو. كنت في تلك الفترة لا أميز الناس باعتبارهم أطفال وكبار، ولا بنات وأولاد. كان الناس عندي يتميزون بأحجام الجسم، وألوان الجلد. قلت له كيف أنني بحثت عن رأيي في محل اللعب، وفي محل الحلوى، وعند البقال وفي الصيدلية، ولكني لم أجده عندهم. كل ما وجدت هو أنهم يضحكون. فهل رأيي هذا يدغدغ؟ وأنني عندما أجده سأضحك مثلهم؟ ثم أين أجده؟.. ابتسم أبي. كان هذا أول حوار حميم بيننا. وبعدها توالت الحوارات.. قال أبي: "يا حبيبتي، رأيك لا يمكن أن تشتريه. رأيك تجديه بداخلك. يجلس في رأسك ويخرج من لسانك." أخذت أهرش في رأسي ثم بسرعة أخرج لساني وأحاول أن أنظر له وهو خارج فمي لكي أرى رأيي.. لكن والداي كانا يقولان إنه من العيب أن نهرش هكذا أو نخرج لساننا أمام الناس.. فصرت ألعب برأيي وحدي في حجرتي، وعلى سريري العزيز…


*****


باب العالم ونافذته


سحب رجل أسمر مفتول العضلات الباب الحديدي الأخضر الكبير. كان جلبابه معقوداً بصورة غريبة عليّ بحيث يخرج من فتحة الجيب. وكانت يده الضخمة بلون الشيكولاتة تهز جنزير الباب، فتحدث صليلا يثقب طبلة أذني. لم يزعجني في الصوت سوى ارتفاعه، مثله مثل كل شيء حولي، كان مرتفعا بحيث لا يمكنني أن أطاله. لو كان هذا الصوت أكثر خفوتا لكان أشبه بصوت إلقاء قطعة معدنية في ماء النهر. وكان سيصبح جميلا.

عندما انفتح الباب، بدت حديقة صغيرة وجميلة من الصبارات الضخمة، يمكن للواحد أن يختبئ خلفها. لم أكن خائفة. ولا سعيدة. كنت ألمس كل ما يمر بي. على بعد بضعة سلالم وقفت قاعدة تمثال من الرخام الأبيض، فوقها تمثال يالحجم الطبيعي من المرمر للعذراء والطفل. لم أكن ساعتها أعرف أنه تمثال العذراء والطفل. لكنه كان حانيا جدا ومريحا. لولا أنه أبيض هكذا.... كان لونه يقف بيني وبينه. فأنا بسماري، عندما أكبر لن يمكنني أن أصبح هذا التمثال. كان التمثال عاليا جدا بحيث أنه بدأ يختفي عن عيني كلما صعدنا السلم. استطعت أن ألمس القاعدة الرخامية فقط. كان عليها لوحة معدنية بلون جميل ومريح (عرفت بعدها أسماء المعادن وعرفت أن اللوحة كانت نحاسية) عليها كتابة بارزة كانت تدغدغ باطن كفي وأنا ألمسها بحيث عرفت إنها تحدثني. شعرت بعناقها. ولم أفهم معاني الحروف اللاتينية.

دخلنا حجرة صغيرة قابلتنا فيها امرأة قصيرة الشعر، نحيفة وطويلة وسمراء. انحنت نحوي وربتت على شعري. فتحت باباً أبيض في الجدار المقابل وقالت: "يمكنكم انتظار دوركم هناك." أعطت ورقة لأمي. جلسنا في الحجرة الرخامية المقابلة على مقاعد خشبية ملساء بلون الشيكولاتة أيضاً. سألني أبي: "يعجبك المكان؟" فأجبته: "نعم" بينما أهز قدميّ وأحاول أن تتمكن عيني من رؤية السقف. كان السقف شديد العلو والبياض بحيث يحتاج الكثير من التركيز لكي أراه. وكانت النوافذ طويلة وعريضة. تطل على الشارع خارج المدرسة.

مشينا تتقدمنا راهبة عجوز بزيها الرمادي الفاتح اللون، وبانحاءة ظهرها التي جعلتها قريبة مني أكثر من أي شخص آخر، نجتاز ممر إلى آخر، ونصعد سلما لآخر. حتى وصلنا إلى باب حضرة الناظرة. هنا قالت الراهبة العجوز ذات البسمة والانحناءة: "حظ سعيد". ابتسمت لي وغمزت بعينها ثم رحلت. طرقت أمي الباب والتقطت يدي. دخلنا أولاً ثم دخل أبي. كان في الثالثة والأربعين من عمره.

أمي أعطت الورقة الصغيرة للراهبة الجالسة خلف المكتب الأبيض العريض (حضرة الناظرة) أو كما يسمونها في المدرسة "الراهبة العليا". نظرت الراهبة من تحت نظارتها ذات الإطار البلاستيكي الأسود العريض، إلى الورقة. أخرجت ملفاً من بين الملفات الموجودة على مكتبها وبدأت تطرح بعض الأسئلة على والديّ. كانت أمي تجيبها متحمسة وبينما تفعل ذلك تحاول أن تجلسني على رجليها بينما أنا أتشبث بالوقوف لامسة بيدي مقعد أبي. ومواجهة بنظري وجه الراهبة العليا تارة، والحوش الواسع للمدرسة تارة. ذلك الحوش ذو الشجر الكثيف والعشب وأيضاً تمثال آخر للعذراء والطفل تطابق تماماً تمثال المدخل. في تلك اللحظة ظننته التمثال ذاته وقد جاء إلى حيث يمكنني أن أنظر إليه من النافذة. وكأن هذا التمثال الحاني المفرح لولا لونه الذي يشعرني بالأسى على نفسي، يريد أن يكون بجانبي. لم يكن من الصعب علينا أنا والتمثال أن نتبادل الحديث، فأنا أعرف لغة الصامتين: تعلمتها من جدتي لأمي ذات النصف المشلول، والتي تحدثني بالنظرات. كانت صحبة التمثال مفرحة وجميلة. ولم أدرك معها متى رحل والداي. فقط وجدت هذه السيدة خلف المكتب ذات الزي الغريب تنادي اسمي مرارا وتكرارا حتى أنتبه لها. نظرت إليها أخيراً. أخذت تطلب مني أشياء عجيبة وتافهة مثلا: تضع أمامي كرات من الحلوى الملونة وتسألي ما هذه وما لونها.. أو تقول لي: معنا برتقالة وبرتقالة فما حصيلة عدد ما معنا من البرتقال.. كيف أقول لها إننا ليس معنا برتقال أصلاً وأنها تكذب؟ أنا الضيفة عندها وينبغي أن أكون مهذبة.. تطلب مني أن أجلس حيث كانت أمي تجلس مسبقاً وأن أرسم لها شيئاً.. كيف يمكنني هذا والمقعد موضوع بحيث يلامس جنبه الخشب الأمامي للمكتب. ولو جلست عليه لن أتمكن من الرسم لأن الورقة التي تركتها لي على المكتب يستدعي لكي أرسم عليها أن ألوي جسدي بحيث لا يمكنني أبداً أن أفعل.. من الغير منطقي أن أقبل ما تطلب مني، ومن غير اللائق أن أرفض.. بقيت صامتة. سألتني إن كان عندي أصدقاء؟ هل علاقتي طيبة بأختي؟ هل أنا أحس أنني وحيدة؟ كيف أجيبها على هذه الأسئلة؟ ليس من اللائق التحدث عن أمور البيت للغرباء، أليس كذلك يا أمي؟ لكن أمي ليست هنا. اختفت فجأة هي وأبي وتركاني مع هذه الغريبة التي تعجبني نظرتها من تحت النظارة بصورة ما. وأحس إنها شقية وتريد أن تلعب معي. لكننا لسنا أصدقاء بعد.. بقيت صامتة إلى أن نبقى أصدقاء. ويبدو أنها تفهمت هذا جيدا. بدا لي أنها تعرف هي أيضا كيف تكلم الصامتين. وفرحت بذلك جداً. أخذت أحد الجرائد وبدأت تقرأ غير مهتمة بي. لكنها لم تطلب مني الانصراف.. كنت أريد أن آخذ واحدة من قطع الشيكولاتة التي أمامها. وكنت أيضا أريد أن أنصرف. لكنني لم أكن أريد أن أقطع عليها قراءتها للجريدة. اخذت قطعه الشيكولاتة ووضعتها في فمي بورقتها الخارجية وجريت خارجة، أعبر الممرات والسلالم التي عبرناها مسبقا إلى أن وصلت إلى سيارة أبي. لم يكن والداي هناك. وقفت عند السيارة وأخرجت الشيكولاتة من فمي. فتحت الورقة وأكلت الشيكولاتة بسرعة قبل أن يلحظ سرقتي لها أحد. ظهرت أمي مفزوعة قالت : انت هنا؟!.. فأجبت : "نعم" أخذتني وصعدت إلى المدرسة مرة أخرى. رجت الراهبة العجوز أن تصطحبنا مرة أخرى إلى حضرة الناظرة. طرقت أمي الباب بينما أبي يكتشف ورقة الشيكولاتة في يدي بينما يريد أن يمسكها. قلت: "لم أجد سلة مهملات...". عندما دخلت شرحت أمي للراهبة العليا لاهثة كيف أنها تخيلت أنها فقدتني وأنها وجدتني في النهاية عند سيارة أبي. قال أبي إنه وجد غلاف الشيكولاتة هذا في يدي. نظرت لي الراهبة العليا من تحت نظارتها. ولوحت لي بيدها كي ألف حول المكتب وأذهب إلى مقعدها. ذهبت. قالت: "لماذا لم تطلبي الشيكولاتة مني؟" قلت: "لم أكن أريد أن أقطع عليك قراءتك. ولهذا أيضا خرجت دون إذنك." قالت: "هل دلك أحد على الطريق؟" أجبت: "لا." نظرت إلى الملف الأصفر أمامها وقالت بينما تكتب: " نقاط ضعف: فقدان الرغبة في التعبير عن الذات. التصرف بدون استشارة الكبار. الانطوائية. نقاط قوة: حسن التصرف مع الصراع الداخلي. القدرة الفطرية على التعلم. ميزة خاصة: البراعة في التعامة مع الاتجاهات. أوافق."

عانقتني أمي بشدة بحيث شعرت إنها تريد أن تدق عظامي. وأخذت تلقي علي كل كلمات المديح الممكن كأنها تريد أن تخجلني عن عمد، وتنهال عليّ بالقبلات المبللة المقززة. نظر أبي لي وابتسم. وقفت الراهبة العليا وقال لي: عندما تأتين إلى هنا ستعرفين كيف تجدين الطريق وحدك إلى مكتبي لو قابلت أية مشاكل." مدت كفها لي وقالت: آنسة حسين، يمكننا أن نصبح اصدقاء." صافحتها بابتسامة مرتاحة، بينما لم تكن راحتى كافية لكي أطلب منها كأصدقاء أن تقرضني نظارتها لكي أرى من خلالها كيف تراني.


********


موسى يخطط حرباً


كانت أحلامي الأولى قصيرة وكأنها مقتطفات من أحداث طويلة. ذات مرة كان موسي يقف عند باب حجرة أسمنتية رمادية بلا طلاء، يخطط حربا. وكان الأعداء بالخارج يتوعدونه هو وقومه. كان موسى يقف ظهرة للفتحة التي سيحل مكانها باب عندما يكتمل طلاء الحجرة. وثلاثة رجال آخرون يقفون أمامه، ظهرهم لما سيكون لاحقاً الشرفة. وكان يحدثهم بهمس وذعر واضحين على ملامحه. لم يكن أحد منهم يراني، وإلا لماذا لم يوجه لي الحديث أحد. لم أكن حتى ذلك الحين شاهدت نفسي داخل حلم ما. لكنني كنت أعرف أنه بما أنني أرى ما يحدث فأنا موجودة، وربما يقتلوني لو شاهدوني. أو يخطفوني فلا أستيقظ في الصباح في بيت أبي. كان يبدو أن هؤلاء الأربعة هم الذين استطاعوا الفرار من حادث مريع ما، وأن بقية جيشهم قد انخرط في المعارك بحيث لا يمكن معرفة ماذا حدث له..

استيقظت مفزوعة. كدت أصرخ. لولا أني سمعت صوت أبي في حجرة الصالة يقرأ القرآن كعادته في هذا الوقت المبكر من السحر. نظرت حولي. كانت الحجرة مازالت تهيم في الإضاءة الأسطورية لهذا الوقت من اليوم، إضافة إلى نور الصالة الذي يصل طيفه من عقب باب الحجرة، وكأن الشمس تشرق أسفل. كان أبي يقول فيما معناه : "يا بن أمي لا تشد لحيتي". نظرت إلى الحجرة مرة أخرى. كانت أبعادها هي ذات أبعاد الحجرة التي كان يقف موسى عند بابها، أي في ذات الاتجاه الذي أضع فيه رأسي. الفارق الوحيد أن الحجرة التي أنا فيها مفروشة وعلى جدرانها طلاء. خرجت إلى الصالة وجلست بالقرب من أبي. صمت أبي عن القراءة عندما لمحني. سألني لماذا أنا لست نائمة فأجبته: هل تعرف واحداً اسمه موسى؟ فضحك أبي وقال: "كنت تتصنتين عليّ؟ موسى هذا أحد أنبياء الله، وأنا كنت أقرأ حكايته في القرآن." قلت له: أريد أن أقرأ القرآن. عانقني أبي وقال حسناً.. اجلسي جواري وأنا أقرأ لك." كنت أعرف أنني ما دمت إلى جواره، فأنا لست على سريري. إذاً لن يعيدني السرير إلى هذا الفزع في عيون موسى وحلفائه الثلاثة. في المساء، عندما ذهبنا لشراء العيش الفينو من أجل إفطار اليوم التالي، قلت لأبي ونحن نعبر كوبري الملك الصالح: "أبي موسى وهارون أخان." قال أبي: "وكيف عرفت ذلك؟" قلت: "من أختى التي في المرآة. فأنا عندما أحرك يدي اليسرى تحرك هي يدها اليمنى. يعني تفعل العكس. ولهذا هي أختى التي تشبهني وتفعل عكسي. والآن انظر لفمي وأنا أنطق اسميهما: مووووساااااا .... هاااااارووووون، في الأول أضم شفتي أولا ثم أفتحهما، وفي الثاني أفعل العكس.. لذلك فهما شبيهان يفعل كل منهما عكس الآخر.." ضحك أبي لكن القلق قد ظهر عليه.. بعد صمت قصير قال لي: "يبدو أنني سأبدأ في قراءة القرآن عصرا أيضاً، حتى تتمكني من متابعتي وأنا أقرأ لتعرفي حقيقة الأمور." قلت غاضبة: " لكنني لم أكذب يا أبي. ما قلته حقيقي أيضاً" قال أبي وهو يربت على كتفي بأطراف أصابعه: "نعم، حقيقي أننا نفتح فمنا ثم نضمه عند ذكر اسم هارون ونضمه ثم نفتحه عند ذكر اسم موسى."

فرحت باكتشافي. وفرحت أكثر لأن أبي يعترف باكتشافي. وأنه يمكنني أن أتحدث معه في هذه الأمور، طبعا بفضل رحلة العيش الفينو الذي نحتاجها كل مساء مادمنا نذهب في الصباح للعمل وللحضانة.


****


أستطيع أن أراني


أول حلم أتذكر أنني رأيت فيه نفسي، وكان علي لكي أحكيه أن اقول أنا التي في الحلم، مثلما أتحدث عن أختي باعتبارها أنا التي في المرآة، كان حلما قصراً أيضاً. كنت أمشي في صحراء ما. لكن الظل كان في كل مكان. وكنت في الحلم أحدث ظلي الذي على الأرض عن شيء ما. وكنت جادة جداً ومركزة تماماً فيما أتحدث فيه بحيث لم أكن أرى أين أضع خطوتي. وبينما أمشي في خط مستقيم من الشمال إلى الجنوب أمام عيني التي تحلم. وظلي على عكسي متعامد على عيني التي تحلم أي متجه شرقا، كانت هناك حفرة كبيرة وسط الرمال يمكنها أن تبتلع نخلة. وكنت أنا التي في الحلم أمشي نحوها ولا أراها. وبينما أنا كذلك وبينما قدمي بدأت تشرع في لمس الفراغ الذي سأقع فيه، جاء دب صغير وجلس في الحفرة، بحيث أنني استكملت المشي وكأنه لم تكن حفرة هناك. أنا التي في الحلم لم ترى الدب. لكن أنا التي احلم رأيته. كان بلون الظل في نهار الصحراء.

أطفال الحضانة في المدرسة لهم ركن خاص مسور، به ألعاب حركية كثيرة. أرجوحات وغيرها مما لا أعرف اسمه. لم أكن أبدا أحب "الزحليقة" لذلك لم يكن عليّ أن أتكبد عناء الصراع واللكز الذي تقوم به الطفلات لكي تتمكن من اعتلاء الزحليقة والسقوط من فوقها صراخاً. كنت أفضل لعبة أخرى. لعبة السلالم. سلمان قائمان يوصلهما من أعلى سلم أفقي. أصعد السلم حتى أصل إلى السلم الأفقي بأعلى، أدخل من فتحاته وأنا أمسك به، وأؤرجح نفسي مثلما يفعل لاعبي العقلة. لم تكن هذه اللعبة محبوبة من زميلاتي. لذلك لم يكن أيضا عليّ أن أتكبد عناء الشجار لاعتلائها. كنت وحدي ألعب على راحتي بلا قلق. أتذكر أنني ذات يوم سألت أمي: "لماذا لا نعيش على الشجر يا أماه؟" فأجابت: "يا حبيبتي... مثل العصافير؟" فأجبتها باستنكار: "لا. مثل القرود! ونتأرجح بين الأغصان ونأكل موزا كثيراً وفول سوداني!" كانت هذه الحوارات تقلق أمي. كانت تشعر بمسئولة مبالغ فيها. فأنا هادئة جدا مهذبة وأكاد لا أتحرك في البيت، ولا أكسر شيئاً. لكني ألقي فجأة بجمل كهذه: الحياة على الشجر مثل القرود..

إلى جانب لعبة السلم، كنت ألعب أيضا بلا لعب. فلم أشعر أن بقية الألعاب أصدقائي لكي أشاركهم أصابعي. كنت أجلس على الأرض الرملية لحوش الحضانة المستقل، وأغرس يدي في الرمل ثم أجمعه وأنثره. أحفر فيه.. أردمه.. وكنت أعرف أنني لكي أصل إلى مكتب الراهبة العليا سأخرج من باب الحوش إلى حوش ابتدائي، ومن سوره إلى الحوش الكبير، أدخل المبنى الذي فيه بلكونة (الإذاعة المدرسية) وفي الدور الثاني بعد الأرضي، يساراً، الباب الرابع. هناك مكتبها. لكنه كان ممنوع أن تخرج إحدى طفلات الحضانة إلى حوش ابتدائي بدون أن تصاحبها مشرفة، ويكون هناك سبب قوي لخروجها مثل رغبتها في دخول الحمام مثلاً.

كنت أجلس بهدوء على الرمل. ذات مرة أتذكرها جيداً. بينما أعبث بالرمل خرج لي شيء أسود كبير وبدأ يمشي على يدي. كان شكله يدعو للفضول، وكذلك حركته. صرخت إحدى الطفلات فتبعها الفصل جميعاً جاءت المشرفة ونفضت الشيء المتحرك الأسود عن يدي وأخذتني لأغسل يدي، ثم صحبتني إلى الفصل. أخذت تعتذر بشدة. وتقول لي إن الراهبة المسئولة عن سنة أولى وثانية حضانة لو عرفت بوجود هذه الخنفساء في الرمال ستوبخها وربما تقطع عيشها. وأخذت ترجوني ألا أقول شيئاً. حتى لو قالت كل التلميذات أنه كانت هناك خنفساء، وأنا نفيت ستأخذ بكلامي أنا لأنني من كانت الخنفساء على يدي، أي أنا صاحبة الحدث. قالت لي: "أرجوك يا ابنتي اخفي رعبك قدر المستطاع" قلت: مدام، أنا لست خائفة. لكنني أريد أن ألعب مع هذا الشيء الأسود المتحرك. إنه يعجبني. عندما يكون على يدي وأوجه يدي ناحية الشمس، يصبح أسوده فضياً وهذا يعجبني. أين يعيش هذا الشيء وماذا يفعل؟ أريد أن أعرف كل شيء عن هذا الشيء الجميل" قالت: "لكنه أسود! ليس جميلاً! أسود مثل القلب الأسود المليء بالأخطاء.. لا ينبغي أن نصادق هذه الأشياء ولا أن نلعب بها. ينبغي أن نصادق زميلاتنا في الفصل ونلعب معهم. لماذا لا تلعبين مع زميلاتك؟"

في الفصل كنت ألعب المكعبات، والبازل والميكانوا، وأحب الحساب، وأموت غراما في حصة الصلصال والعجينة البيضاء. كنت أحب الحصص جداً. كنا نتعلم أغنيات فرنسية نفتح فمنا ونضمه كثيرا بينما نغنيها. كنت أحب هذا اللعب بعضلات فمي. هذا اللعب الذي يخرج صوتا أيضا منغما من حنجرتي. أحببت الغناء. كان صديقاً جديدا أهداني ألعابا جديدة. فصرنا نلعب معاً بحنجرتي ولساني وشفتي. كذلك كنت أحب الحصتين الأخيرتين. بعد الفسحة الكبيرة، تخرج الطفلات اللاتي ينتظرهن أولياء أمورهن. أما اللاتي سيرحلن بأتوبيس المدرسة فينتظرن حتى نهاية اليوم الدراسي للكبار. حصتان للنوم. تقف مشرفة الفصل عند مكتب المدرسة. أما نحن فينبغي أن نضع أيدينا ورأسنا على أدراجنا ونغمض عيوننا. أحيانا تحكي لنا المشرفة قصة ما. وأحيانا تقول فقط ناموا. كنت أفضل عندما تقول ناموا. هكذا كان يمكنني أن أخترع لنفسي قصصي الخاصة التي تتشكل أثناء ما أحكيها لنفسي بلا صوت. وبينما الزميلات يتأففن من النوم هكذا ويبدأن في الشغب. وفي غالب الأحيان كنت الوحيدة في الفصل التي يمكنها أن تبقى لساعة ونصف "نائمة".

في احد الأيام في نهايات فبراير تم استدعاء ولي أمري. قالت الراهبة المشرفة على الحضانة: "خذي هذا الجواب اليوم وأعطيه لوالدتك". فعلت. عندما قرأت أمي الجواب أصابها الرعب. سألتني: "كيف كان يومك في الحضانة؟" كعادتها. فأجبت: "يوم حلو" كعادتي. فخرجت أمي عن وقارها وبدأت تنهال عليّ بالصراخ: "أنت كاذبة. ماذا تفعلين في الحضانة. أكيد فعلتِ شيئاً خطأً. لماذا إذا يستدعونني بخصوصك هكذا ويريدونني أن آتي بسرعة وللأهمية؟ ماذا فعلت؟" بقيت صامتة. واتهمتني أمي بأنني أكيد فعلت ما يغضب لهذا فأنا لا أجد ما أدافع به عن نفسي.

يوم الأحد ظهراً جرتني من يدي إلى المدرسة. كان هذه هي المرة الثانية التي أرى فيها المدرسة جميلة، هكذا بلا تلاميذ ولا صخب. فقط الراهبات وبعض المشرفات. الممرات الرخامية. الحوش الكبير ذي التمثال الحاني. لكن هذه المرة لم يكن أبي معنا. ولم نأت إلى المدرسة بسيارته. وأمي كانت تقبض على معصمي بعنف، وأنا أتجرجر خلفها بينما تسرع هي خطوتها غير آبهة بي. ذهبنا إلى الفصل. كانت الراهبة المشرفة على الحضانة بانتظارنا. كنت التلميذة الوحيدة وكان يمكنني أن أجلس إلى أي طاولة أريدها. اخترت طاولة صفراء خشبية مغطاة بالفورمايكا. وأخذت أحك جلد ذراعي بالفورمايكا البارد الناعم. كان شعورا لذيذاً.. قالت المشرفة لأمي: "ابنتك ذكية وتتعلم بسرعة. تحب الألعاب اليدوية والرسم بالفلوماستر وستتعلم الكتابة بسهولة، لأن الامساك بالقلم عندها أمر سهل. أيضاً عقلها يقظ جداً فهي تحفظ ألحان الأغاني بلا نشاذ وهذا أمر صعب في سنها. كذلك تحل مسائل الحساب بسرعة مذهلة بالنسبة لسنها. كما أنها يمكنها بسهولة تجريد الشياء. أي عندما نقول عندنا خمسة كتاكيت وكتكوت تقول خمسة وواحد ستة، ولا تقول تقول ستة كتاكيت." نظرت لي أمي بينما أنا منشغلة بلمس الفورمايكا، واكتشاف أنه يسخن عندما أستمر في لمسه. استطردت الراهبة: "المشكلة إنها لا تتشارك مع أحد. والأهم، هي لا تأخذ حقها أبداً. يعني لو أخذ أحدهم منها قلما ولم يعيده لها، لا تسأل. أما هي فلا تطلب شيئا من أحد. ثم كيف لا تكون قد كونت صداقات حتى الآن، ونحن نقترب من نهاية السنة الدراسية؟!.. هذا أمر مخيف. الطفل عليه أن يلعب. ليس أن يذاكر فقط. وقد لاحظنا أنها في الفسحة لا تلعب مع أحد، وتجلس وحدها دائماً. هل هي طفلة وحيدة؟" أجابت أمي: "لا أختها هنا في المدرسة في الصف الثالث الابتدائي" قالت الراهبة: "حسناً انتظريني لحظة" جلست أمي على ركبتيها أمامي، أمسكت بيدي وبدأت تعتذر عما بدر منها اليوم وبالأمس. عادت المشرفة بملف أختى وكانت الدهشة واضحة على وجهها: "اختها مشاغبة. تسرق الساندويتشات من زميلاتها وتضربهم بالكراسي! كيف أنك تسكتين على هذا الأمر؟! صحيح هي متميزة ودائما تطلع الأولى على فصلها، لكن في مادة السلوك تأخذ أقل الدرجات دائماً. هل يمكن أن تكون أختها تعاملها في البيت بنفس هذه الطريقة بحيث تعودت الطفلة أن يسرقها الآخرين دون تزمر منها؟ هل يجعلها هذا تعتقد أن وحدتها وتجنبها للآخرين هو نوع من الدفاع عن النفس عبر تجنب المشاكل التي قد تحدث لها لو اختلطت بالآخرين؟" أجابت أمي مذعورة: "لا! لا! أختها تعاملها أحسن معاملة. بل إننا فكرنا في الإنجاب أصلا مرة أخرى لأن أختها كانت تتمنى أن يكون لها أخت! إنها تحبها جدا جدا وترعاها بلا كلل!" قالت المشرفة في حزم، أريد أن اسمع هذا من الطفلة نفسها، أرجوك اخرجي الآن وسأوافيك بعد لحظات."

خرجت أمي والفزع والأسى لم يبارحا وجهها. قالت المشرفة: "حبيبتي، ما سيقال هنا بيننا سيكون سرا بيننا ولن نخبر به أحدا نحن الاثنين، موافقة؟" قلت: "حاضر". قالت: "ماذا تفعل أختك معك من الصباح إلى الليل؟" قلت: في الصباح أدخل الحمام ثم أوقظها لتدخل. بعدها تساعدني في ارتداء الزي المدرسي وتصفف لي شعري أمام المرآة. شعري خشن ويؤلمني عندما تصففه لي لكن هذا ليس ذنبها. أنا أحب أن أكون وحدي أمام المرآة، لكنها لا تعرف ذلك. لذلك فوجودها معي في المرآة ليس ذنبها أيضاً. في المساء ترتب لي حقيبتي المدرسية حسب جدول الغد." ربتت المشرفة على كتفي وشكرتني. ثم طلبت مني أن ألعب في الحوش حتى تتحدث إلى أمي. دخلت أمي وخرجت أنا. بقيت قرب الباب. قالت المشرفة لأمي: "هناك علاج نافع جداً هنا. ابنتك الكبيرة عندها طاقة هائلة، حاولي أن تجعليها تشعر بالمسئولية تجاه اختها الصغيرة، أثناء وجودهما في المدرسة، وافهميها أن أختها الصغيرة تحتاج لرعايتها، واجعليها تختار بعض الأصدقاء لها، وناقشيها في هذا الأمر، بحيث تكون النتيجة أن الأصدقاء الذين يسكنون بالقرب منها ويركبون معها أتوبيس المدرسة هم الأولى بالصداقة. هكذا يكون لها أصدقاء داخل وخارج المدرسة، وإذا فعلوا لها مكروها تكون الأخت الكبرى هي التي تدافع عنها. هكذا ستتعلم الأخت الكبرى الاهتمام بالآخرين، وتستخدم طاقتها في إرساء العدل، وتحس انها متميزة. ويكون أيضا للصغيرة أصدقاء يخرجونها من وحدتها هذه غير الطبيعية. من الآن حتى الغد سأفحص داخل الملفات من في سن ابنتك الصغيرة ويركب معها الاتوبيس وأخبرك بكل شيء عنها تليفونياً."

أصابني الإحباط تماماً. هل ينبغي أن أصادق أشياء متحركة؟...أشياء للتعامل معها ينبغي أن أتكلم؟ أن أرد على ما يقولون... يا دب أحلامي.. يا حارس صحرائي الرملية ذات الجعارين والخنافسحأحلامي! انقذني من هذا الشرك...


*******


الجنة، والخديعة البيضاء


في حوش الابتدائي كانت زميلتان لي تلعبان نط الحبل. طلبت مني أختى أن ألعب معهما. كما طلبت منهما أن تشركاني في اللعب ، وإلاّ... أمسكت كل واحدة منهما بطرف الحبل وطلبن مني أن أقفز دون أن ألمسه بينما هما يدورانه لأعلى واسفل. لم أكن أرغب في اللعب. كنت أريد أن أجلس على السلم وأواصل حواري مع السماء والأشجار والغربان المتناثرة هنا وهناك.. نظرت لأعلى كانت شجرة كثيفة أمامي، بينما التلميذتان تحثانني على النط. انفتحت في الشجرة عين ومن داخل بؤبؤ العين ظهر عجوز بلحية بيضاء يشبه "بابا نويل" لكنه لم يكن يرتدي زيه الأحمر. نظر لي وهمس صوته في أذني بأن أصعد. لم أعرف كيف أفعل هذا. الشجرة عالية جدا. لكنني أريد أن أصعد. قفزت لأعلى بكل عزمي.

من عين الشجرة دخلت. وما إن دخلت إلا واختفى الرجل العجوز. لكن أنفاسة وحركة وجوده كانتا هنا، تماما خلف كتفي الأيسر. وكان هناك طريق طويل تحفه الأشجار من الجانبين. طلب مني أن أمشي، فصارت الأشجار تعود للوراء. قطف زيتونة من إحدى الشجيرات. زيتونة سوداء بلمعان فضي، جميلة كخنفساء. أعطاها لي. كان طعمها يشبه طهم الأراسيا. ثم وجدت نفسي مرة أخرى في الحوش المدرسي. لكن البنات لم تلتفتن لي. كأنهن لا ترينني. في ملعب كرة السلة. في الركن البعيد الملاصق لباب خروج الأتوبيسات، وقف بائع بطيخ، بعربته الخشبية المتجولة. كانت عباءته ولحيته يشبهان الرجل العجوز الذي يسكن عين الشجرة. ذهبت إليه. كان بطيخه كله أخضر لامع وجميل، سوى بطيخة واحدة بيضاء لزجة كأنها دهن. نظرت إليه. لكنه لم يجيبني... قررت أن آخذ البطيخة المختلفة. وعندما رفعتها إلى يدي اختفى البائع واخفت عربته. وانفجرت البطيخة البيضاء وخرج من داخلها دود أسود كثيف أخذ يدخل تحت جلدي ويحتل جسمي كله من الداخل. صرخت. كان صوتي مكتوما. وكانت التلميذات مازلن يلعبن نط الحبل، وكنت أنا التي في ملعب كرة السلة، ترى "أنا" التي تنط الحبل.. وكنت أنا التي تحلم مذعورة وأريد أن أخرج من الحلم بسرعة. دخل أحد أتوبيسات المدرسة الحوش الكبير. توجهت إليه بنظري، أنا التي أحلم، فأعطيت بذلك ظهري لأنا التي تنط الحبل ولأنا التي يغزوها الدود الأسود، فلم أعد أراهما. كانت حركة الأتوبيس غير متوازنة. وكأنما سيقع من على جرف ما.. وكنت أقف في الأتوبيس وعمري أكبر بكثير مما كنت عليه وأنا أحلم بهذا الحلم. كنت كبيرة وكأنما في نهايات إعدادي أو بدايات ثانوي.. وكنت أحاول تهدئة الأطفال الصغار والتخفيف من شده رعبهم وصراخهم.

عندما استيقظت صرخت. استيقظت أمي. وجدتني أنظر إلى يساري وأنهار في بكاء شديد. سألتني ما بي مذعورة. قلت لها: "الأراجوز الذي على الحائط يعاكسني!" فتحت أمي النور. نظرت حيث أنظر وقالت لي: "انظري بنفسك. ليس هناك أراجوز. هذه شماعة الحائط وهذا الزي المدرسي معلق عليها.".. عرفت ساعتها أن ما أراه في الظلام يختلف عما أراه في النور. وأنه في النور هناك أشياء كثيرة تتنكر في هيئة أشياء أخرى.. وأنني لن يمكنني أن أقنع أمي بما أرى. عرفت أن الكبار لا يرون ما أراه. وأنه ينبغي أن ابتعد عنهم قدر المستطاع.

أطفأت أمي النور وخرجت. أغلقت الباب خلفها. نظرت إلى يساري. عاد الأراجوز يظهر لي. وحدي معه في الحجرة. نظرت إليه مائلة براسي. مال براسه مثلي. ابتسم لي، وكأنه يتحدى قوتي. وكأنه يقول لي لو استطعت ألا تخافي مني سنتمكن من أن نكون أصدقاء. وهذا هو التحدي، لنرى إن كان يمكنك ألا تخافي مني. جازفت ونمت في حضورة. في الصباح وأنا أرتدي الزي المدرسي، كنت أعرف أنني أرتدي الأراجوز ذاته. الأراجوز الموجود بداخل الزي. وأنه معي في المدرسة. وأنني كلما لمست ثيابي أتحدث إليه.

بعد هذه اللحظة صرت أضع زيي المدرسي دائما على شماعة الحائط. ولو ذهب إلى الغسيل، كنت لا أهتم. الزي مجرد خدعة. يمكنني ببساطة أن أستحضر صورة الأراجوز ونلعب معاً. كان الأراجوز يحكي لي حكايات عن كل الأشياء الجامدة. المقعد، سبت الغسيل، الأحذية، الملابس الأخرى، .. كل شيء جامد. ومع الوقت بدأت هذه الأشياء الجامدة تعتاد عليّ وتحدثني هي الأخرى، في الليل. قبل النوم. وأنا مستلقية كالجماد على سريري العزيز.

تعلمت من الأراجوز ألا أخاف من هذه الأشياء. هي أمور طبيعية جداً أن تحدثني الجمادات.. أن تلعب معي. أن تحكي لي حكاياتها. تدريجياً، صرت أنتمي لعالم آخر لا يخص الكبار. بسرعة استطعت أن أتخلص من أمي أثناء المذاكرة. وبدأت أذاكر وحدي منذ النصف الثاني من سنة أولى ابتدائي. صحيح كانت هناك التزامات على الواحد تجاه هذا المجتمع، منها مثلا، أن يكون لي أصدقاء من البشر من سني، لكن هذه لم تكن مشكلة. إذ أنها لا تعني سوى أن أعتذر عن اللعب معهم في الفسحة متحججة بالذهاب إلى الحمام. وأن أبتسم كثيرا يوم عيد ميلادي الذي سينبغي علي أن استقبلهم فيه، وأن نعمل زيطة. كنت أتركهن يعملن الزيطة وكنت أجلس أنا على سريري لا مبالية. أبتسم واضحك لأن الأشياء الجامدة المتطايرة هنا وهناك بسببهن تستغيث بي، وصار التحدي، هو أن تتصرف هذه الأشياء وحدها لتنقذ نفسها من الفتيان الصغار الشقيات.. هذا ما فعلته ماكينة الخياطة العتيقة ذات الأرجل المعدنية الثقيلة، التي وضعتها أمي في حجرتي. عندما سقطت علي أرجلها أحدى "صديقاتي"، كسرت الماكينة رجلها وهددت بأن تقع عليها وتسحقها. هنا لم تعرف صديقتي ماذا تفعل. فلو كانت رجلها هي التي كسرت – وهذا كان سيعتبر طبيعياً – لكانت صرخت وشتمتني وخرجت لتجد العطف كله من الجميع والاهتمام المركز نحوها. أما أن تكسر رأسها هي رجل الماكينة الصلبة، وتقع تحتها، فهذا الرعب كله. اولا، الرعب من وقوع الماكينة فوق رأسها ، والثاني كيف ستفسر كسرها لرجل الماكينة؟! صرخ الجميع وبدأوا يصحكون: "راسك أنشف من الحديد يا هالة!" وأخذت هالة تعتذر مندهشة. ومن ساعتها لم تلمس أي شيء في حجرتي.

صباح اليوم التالي قلت لأمي، أريد أن اتعلم الخياطة. لم أقل لها إن الماكينة تصرفت بصورة يمكنني معها أن أعتبرها صديقة حميمة، اذ استطاعت أن تعتمد على نفسها في الدفاع عن نفسها ضد هذه الطفلة الشرسة. لم أقل لها أنني رغبة في توصيل هذا الاعتزاز الذي أحس به تجاهها أريد أن أتعلم لغتها كي يمكننا أن نتحاور بلا سوء فهم. ألسنا في المدرسة نكتب بالقلم على قطعة من الورق، تلك اللغات التي يعلمونها لنا لكي نكلم الفرنسيين والعرب والانجليز؟ لماذا إذاً لا يمكنني أن أكتب بالخيط على قطعة من القماش أشياء يمكن أن تفهما الماكينة. مثلاً أن أعمل لها كسوة من القماش الأبيض. أن اسمع صوتها وهي تكر وتتك لي ومعي وبسببي. ولكي أفهم لغة الماكينة كان ينبغي أن أتعرف على مجتمعها. أصدقاءها. حياتها.. فحتى ذلك الحين لم أكن بعد دخلت مجتمع أي من هذه الأشياء المحيطة. فقط كنت أستقبلها في عالمي. عرفت المقص، والكربون، وورق الذبدة، والباترون والمارك والمازورة.. كانت الماكينة كإله ضخم تتجمع عنده وتنتهي خيوط الأحداث التي تحدث حوله. كانت مهيبة. وكنت أصادقها وأشعر بفخر شديد. عندما وصلت إلى المرحلة الثانوية جاءت أمي بماكينة جديدة كهربية. هنا توقفت تماماً عن الحياكة وانتبهت لأشياء أخرى.


*****


رسم الحدود بحبل
هذا دغلي، تلك صحراؤكم


لم يكن والداي يستوعبان ما أقوم به، لكنهما لم يمنعاني. كانت أمي تجدني في علب كرتونية، داخل حقائب السفر، وفي رف الدولاب.. كنت أقول الحقيقة لكنني كنت مع ذلك أكتم أسراري. أخبرت أمي أنني في الدولاب أتفرج على الظلام. أنني رأيته وأنه يشبه فرو الخروف.. لكنني لم أقل لها إننا تحدثنا أنا والظلام، ولا ماذا قلنا لبعضنا البعض. في المدرسة كنت أمارس خيالي على صديقاتي. أحكي لهم عن الشجرة التي دخلتها باعتبارها حقيقة وليس حلماً. أحكي لهم عن الأراجوز الذي يجلس في حجرتي. واخفي عنهم أنه هنا الآن معنا، في ملابسي. استمتع بالعلاقة ذات الوجهين. علاقات من دم ولحم وأخرى من قماش وخشب وطين الخ.. وأنا بينهما أمارسهما معاً. وأقف في الحدود بينهما بمرح لاعب السيرك.. كنت أعرف أن الوقوف على الحبل على ارتفاع شاهق أمر معجز.. وكنت أعرف أيضاً أنه لا يعني الطيران..

في البيت، لكي أتخلص من تفاهة صديقاتي في المدرسة الساكنات إلى جواري كنت أتبع تعليمات أبي. أصادق أطفال الجيران. وكنا نلعب في الممر الموجود تحت البيت. نلعب كرة قدم. أضع الزي المدرسي على الشماعة، أو أسلمه إلى سبت الغسيل الذي اشتاق إليه وأتركهما في حديث خاص. أنهي واجباتي المدرسية بسرعة، وبدلاً من الفرجة على مسلسل السابعة والربع، أنزل بالبيجامة لألعب مع أصدقائي الجيران: شوط يا ولد! باصي! جون! لأ فاول! إيه هو احنا هانحمرأ!..الخ.. ينزل أبي لشراء الفينو لليوم التالي فينتزعني من اللعب فخورا بي. ونذهب في نزهتنا المسائية، حيث يحدثني عن الكرامة وعزة النفس، والصدق ومعاملة الناس بالمعروف. يستشهد ببعض الأحاديث أو بعض القصص القرآنية. وأحياناً يستشهد بنفسه في عمله وفي بيته.. كانت هذه الاستشهادات تتداخل في رأسي بحيث لا يمكني التفرقة بين ما هو من القرآن والحديث وما هو يخص أبي في البيت والعمل.. كانت كلها تخرج منه. بالنسبة لي، كانت كلها تخصه، اي، تخصني عندما أكون في حجمه، وينبغي أن أحفظها عن ظهر قلب ولا أنساها أبداً، لأنها ستكون زادي عندما أصبح هو: عندما أكبر. وحتى ذلك الحين كنت أتلهى بصداقة الأشياء والزميلات والجيران الأولاد. كنت أشعر بمسئولية ما. بأن أبي لا يحدثني عن هذه الأشياء اعتباطاً. وأن هناك شيء سينبغي عليّ أن أقوم به عندما أكبر وهو يعلمني ما ينفعني لتلك اللحظة. كنت أشعر بالخطر.

كنت نائمة تحت أحدى الشجرات الوارفات في دغل لا يبدو له نهاية.. بين ذراعي المضمومتين كان ينام دب صغير. كأنه جرو ضخم.وكانت الأرانب تجري حولنا، والأشجار تعتليها القرود الهائجة.. الأشجار والنخيل، كانا في هذا الدغل يثمران حزماً من الثعابين التي تتدلى وتتهادى مع نسيم الليل الخفيف.. وكان البوم يحلق بعيدا ويحوم. استيقظت قرب الفجر. وضعت الدب النائم مكاني تحت الشجرة وخرجت أمشي قدماً نحو النهر.. في الطريق، تحولت إلى ولد صغير حافي القدمين، عارٍ إلا من خرقة تستر عورته، وعصا من فرع شجرة مستقيم ينتهي في أعلاه بتفرع على هيئة حرفV. كنت قلقة جدا على أمي. وأريد أن أعبر النهر إليها في الجهة الأخرى الصحراوية. في النهر كانت تسبح التماسيح. تفتح فاها كلما حاولت العبور سباحة.. كان الماء ضحلاً كأنما مستنقع.. ولكنه كان نقيا كالمرآة.. ولكي أعبر إلى الجهة الأخرى، كنت أسد فم التمساح الذي أمامي بالضغط علي فكيه بطرف العصا السفلي وأضيع بعد ذلك قدمي فوق راسه.. هكذا فعلت كع التماسيح كلها، حتى صار الخطر ذاته هو معبري إلى الجهة الأخرى.. هناك كانت الصحراء. وشجرة وحيدة متفحمة ونحيلة بلا أوراق. التفت إلى الجهة اليسري ومشيت إلى أن وجدت أمي.. كانت موسيقى ورقص وكأنما هناك حفل كبير. وكانت أمي مستمتعة جداً ولا تدري ما الذي دفعني للمجيء إليها.. كانت ترقص مع الراقصين.. حيتني بابتسامة وتلويحه كف، ثم انخرطت في الجمع واختفت..

في عودتي إلى الجهة الأخرى كان في انتظاري قارب. كنت حزينة بلا غضب.. وكأنني فقدت أمي للأبد. استخدمت العصا مجدافا للقارب وعبرت إلى دغلي. عند الشط، رايت بعيداً فهداً أسوداً يتشاجر مع ثعبان ضخم. بسرعة شعرت أن الفهد يدافع عني ضد الثعبان الضخم الذي يريد ابتلاعي.. جٌرِح الفهد الذي كانت عيونه الخضراه تلمع وجرح كتفه الأيسر لا يقطر دما، بينما يشع لوناً أحمر نورانياً.. كغرغرة العينين.. عندما تمتلئان بالدمع ولا تذرفانه.. هكذا كان دم جرح فهدي. أما الثعبان الضخم فقد رحل بعيداً.. عندما اقتربت من الفهد ألمس جلده شكراً، ابتعد عني ولم يدعني ألمسه. ثم توارى في تجويف جذور إحدى الشجرات العتيقة. بقي وجهه خارجاً. وبقي مستيقظاً. في لمح البصر فهمت إنه لا يريدني أن أقترب منه لأن الفهود تقاتل مادامت مجروحة. ولا تفرق ساعتها بين عدو أو حبيب.. وهو يحرسني الأن من أجل مهمة ما لي مستقبلاً.. ولا يريد أن يؤذيني أثناء شعوره بالألم.

عدت إلى مكاني تحت الشجرة. أخذت الدب الصغير بين ذراعي.. وعاودت النوم. مطمئنة على نفسي طالما الفهد مستيقظ.. حزينة لأجله.. وسعيدة من أجل أمي. وحزينة لفقدها هنا.. في صحراء الجهة الأخرى بين جمع الراقصين. وبين السعادة والحزن والأسى، ترك الدب ذراعيّ ونام مجاورا لي. رأسه ملامسة لظهري.. بينما بدأت تنمو من عظام ظهري وكتفي فروعاً خشبية، وشعري يتحول إلى حزم من الثعابين.


*******


ذكريات


الذكريات الحقيقية، هي تلك التي عشناها قبل أن نعي أن الحياة لا معنى لها في هذا العالم. للحياة معنى بالقطع. لكن في عالم آخر..عالم تتحول فيه الأصابع إلى لعب. والخيال إلى حقيقة مرئية ومسموعة.. تكاد تكون ملموسة..عالم بعيد كل البعد عن نشرة الأخبار، وعن لزوم شراء الخضروات كل ظهيرة، عالم بعيد كل البعد عن ضرورة الأكل، والهضم المتعسر غالباً لعدم استساغة ما يتم إدخاله عبر كل قنوات التوصيل للوعي.. تراب الشارع وضجيج الجيران، ونظرات المارة.. أحياناً أظن أنني مجنونة فعلاً.. فقط يكفي أن ينظر لي أحد المارة في الشارع بينما أبحث تائهة عن علبة سجائر سوبر كليوباترا التي باتت شحيحة هذه الأيام وتباع بسعر مرتفع في السوق السوداء... هذه السجائر التي أعتبرها أحدى الخصال التي ورثتها من أبي. هذه الخصلة التي تنكر لها فيما بعد.. بسببي على ما أتذكر. كان أبي يدخن قبل أن أولد. "كباية شاي مع سيجارتين بين العصر والمغرب" كانت أغنيته المفضلة.. وبين العصر والمغرب، كان أبي يصنع لنفسه كوب شاي ويجلس في الشرفة المطلة على شجرة وحيدة وارفة، هي وحدها التي نمت نيابة عن ثلاث شجرات أخرى تم زرعها في الممر المبلط الذي تطل عليه شرفة شقتنا.. أحس بحركة أبي الرهيفة من شرفة الصالون. أقطع المذاكرة بحجة الرغبة في دخول الحمام.. في الطريق إلى الحمام أتأكد أن أمي مازالت تتابع الفيلم الأجنبي في حجرة نومهما، بينما تذاكر أختي في حجرتنا.. أتخيل الهواء في الصالة. أرى الهواء حولي. أحاول أن أتحرك دون أن أخدشه، أفتح فيه مسارات متواضعة تكفي لمروري.. من الصالة، إلى الصالون.. بهدوء، أفتح باب الشرفة الموارب، لأفاجئ أبي. لكنني صغيرة. لا أتعدي السبع سنوات. وهو يملك أربعين سنة أكثر مني. ويعرف أكثر عن الهواء وخدشه. أتسحب إليه، فيفاجئني هو: "بِخ!" فأصرخ..

- "عارف يا هدهد؟ أجمل شيء في الدنيا السماء. أنا أحب أجلس هنا كل يوم. أنظر للسماء. وأفرغ رأسي من العمل وهمومه. كل شيء خلقه ربنا يعرف ماذا يريد. إلاّ الإنسان.. هي دي الأمانة."
- "كيف؟"
- "كل مغرب، ترجع الطيور إلى الشجرة. في الصبح تخرج لتأكل. تعرف لماذا تخرج. تعرف لماذا تعود. تعود لتنام. الطيور تريد أن تجد الطعام وأن تأكل وأن تنام. الشجرة تريد ماء وشمس وطين وهواء.. حتى الكلاب تعرف ماذا تريد.. لكن هل ممكن تقولي لي ماذا يريد الإنسان؟"
- "نحن أيضا نأكل وننام. أنت تذهب للعمل وأنا أذهب إلى المدرسة.. نحن أيضا نحتاج هواء وماء وشمس وأرض.. نحن مثل الشجر مثل الطيور لا أجد فرقاً."
- "هذا لأننا نشبه كل شيء. نشبه النبات ونشبه الطائر ونشبه الحيوان.. لكن هناك شيء إضافي فينا. شيء اسمه الطموح. الهدف. الاختيار. مثلا، لا يمكن أن نسأل الطائر الصغير ماذا يحب أن يكون عندما يكبر. لكن يمكن أن أسألك؟ "
- "عندما أكبر أحب أن أكون الهواء."
- "هاهاها! ماذا؟.. لماذا؟
- "حتى لا يستطيع أحد أن يعيش بدوني.. لكن أيضا حتى لا يراني أحد."

يرشف أبي الشاي ويدخن سيجارته بينما أتطلع أنا للدخان بحذر.. أريد أن أكون هواءً نقياً، الدخان يمكنه أن يُرى.

الآن أدخن سجائر كثيرة. من نفس نوع السجائر التي أقلع عنها أبي. والعالم يسير بدوني بلا أدنى مشكلة.. يا أبي، لماذا كنت تعلمني الحكمة، وأنا ذاهبة إلى عالم محكوم بقوة السلاح؟.


****


شرب الدم


تقول كتب الأحلام التي طالعتها حينذاك، أن شرب دم المشنوق يعني الشعور بالذنب تجاه خطأ فادح، والرغة في الحصول على عقاب وافي للتطهر من هذا الدنث. أما بعض الكتب الأخرى فقالت إن أي حلم به دم مراق فهو حلم فاسد، ولا ينبغي أخذه في الحسبان لأنه مجرد "أضغاث أحلام". لكنني لم أستطع نسيان هذا الحلم برغم مرور أكثر من سبعة عشر سنة عليه. وإنه كلما تذكرته اكتسب حيوية كأنني أراه الآن.

كنت نائمة على سريري. ثم فتحت عيني ببطء في ظلام الليل. كان الهواء محمل بالدخان، بالضباب. لكنه كان مفرغا من كل صوت. وسط هذا الضوء الشاحب، رفعت الغطاء عني وجلست على سريري أنظر إلى الأرض تحتي. لم أكن أبحث عن شبشب. كنت فقط أنظر لأسفل، نظرة من يجل أحداثاً ما بينما لا يستطيع التدخل فيها. وبينما أنا كذلك أتقبل "القدر" بلا استنكار أو غضب، رأيت قطرات حمراء من الدم تسقط على الأرض وتتجمع في نقطة واحدة. تسقط بانتظام كأنتظام دقات المنبه. رفعت عيني لأعلى، فوجدت شاباً ممصوص اللحم مشنوقاً بحبل سميك خشن مثبت بسقف الحجرة، بينما يتدلى الشاب بلا حركة وكأنه تمثال من الجلد والعضم. أصابني الذعر لما فهمت بسرعة أنه المطلوب مني أن أفعله.. نظرت إلى الأرض مرة أخرى كان طبقي المفضل هناك، كعادته أحمر بلاستيكي، وفيه تتجمع القطرات. كان هناك شيء يدفعني من الخلف كأنه مسدس، شيء لا يمكنني أن أتغاضى عن تهديده لي، يطلب مني أن أرفع الطبق إلى فمي.

ببطء نزلت بجزعي بينما أنا جالسة على السرير، والتقطت الطبق بيدي، ورفعته. بقيت أتأمله للحظة. كانت انعكاسات الأضواء فيه تجعل الدم يتحول تدريجيا من أحمر دامي إلى فضي وأزرق وبنفسجي. انصعت للمهة قبل أن يتجلط الدم ويكون ذلك أصعب في شربه. وبينما أنا أرفع الطبق إلى فمي وجدت على صفحته رغيفاً مستديرا، من ثنيات الرغيف، تكون وجه المسيح. ابتسم لي بما يعني كلي واشربي ولا تخافي. غمست لقمة في الدم وبحذر ذقتها بلساني.. كان طعمها ما عرفته لاحقا، نبيذا أحمرا معتقاً. فرحت.

وضعت الطبق مرة أخرى تحت أقدام الشاب المشنوق. وبدأت أدعو المسيح أن يسرب إليه الخبذ والنبيذ حتى تعود له الحياة. وبينما كانت محتويات الطبق تتحول بخاراً مصوباً تجاه أقدام الميت التي بدأت تمتص ما يأتي من زاد، عدت مستلقية في الفراش. أعدت الغطاء فوقي، وأغمضت عيني.

استيقظت من النوم بعدها مباشرة. كان الليل مازال يخيم على الحجرة. نظرت للسقف غير متأكدة أنني لن أجد المشنوق هناك. إلى هذه الدرجة كان الحلم واقعياً.. لكن شيئا لم يكن في السقف سوى اللمبات النيون الطفأة. خرجت إلى المطبخ، كان طبقي البلاستيكي الأحمر المفضل يحتل مكانه الطبيعي في المطبقية. خرجت إلى الشرفة. كان الهواء بارداً والقمر بدراً. بقيت هناك. أتخلص من سخونة جسمي بعد حلم مرعب كهذا. عندما عدت إلى فراشي، خيل لي في تهاويم الضوء الليلي الشاحب، أن تنيناً له جلد بني وسميك يجلس على طرف السرير حيث أضع قدماي. عاملته معاملة عفريت الزي المدرسي: حاولت أن أخلد للنوم في وجوده.
كان هذا الحلم نهاية لمرحلة ما. بعده، بقيت فترة طويلة جدا بلا أحلام.


******

باب الخيال


لم يعد هناك مجال للحلم. فقد تخطيت السادسة عشر من عمري ومازلت لا أعرف ما هي الإمكانية التي بداخلي والتي بسببها استطعت أن أتخطى السن المصروف لكل البشر.. عندما بلغت السادسة عشر، كنت قد عرفت أن فكرتي الأولى عن العمر المصروف مجانا للبشر، والعمر الذي يحظون به بسبب أفعالهم، فكرة خيالية. وكنت – مع اعتقادي في بداهة هذه الفكرة غير المعمول بها – أسخر من نفسي أنني لفترة طويلة جدا كنت أظنها حقيقية. لكن بسبب اقتناعي التام بأنها فكرة صالحة، لي على الأقل، فقد بقيت بائسة أفكر ما هذا الشيء الذي أستطيع فعله والذي بسببه أبقاني الله حية بعد السن القانوني؟!.. كل ما أتذكره أنني فقدت الأحلام. ظننت ساعتها أنني فقدتها إلى الأبد. وبدلاً منها كانت تأتيني "خيالات". كنت ما أزال محافظة على علاقتي بالجمادات، والحيوانات والطيور. مازلت أحاور الكراسي وأتحسس لحاء الشجر، وأكلم السماء كل فجر، وأعود الملابس عندما تمرض..الخ.. لكن بالإضافة إلى ذلك بدأت تظهر لي أشياء لا يمكن لغيري رؤيتها. فكان هناك أسد يقف محشورة في الممر الواصل بين المطبخ والصالة، وجهه للصالة، والشعر الذي يحيط برأسه على شكل عباد الشمس يقطر عرقا بنفسجيا.. وكانت هناك أفكار مجسمة تسكن الشجرة المطلة على الشرفة. كانت خيالات تتراءى لي. لا تتكلم معي لكنها تتحرك حولي. حتى أنه كانت هناك عائلة بكاملها تسكن حائط الصالون. تسكن في الحائط، وتنتظر مني أن أفتح لها لتدخل. لكن خوفي من هذه الخيالات كان يمنعني. كنت أرى هذه الأشياء وأرتعد وأجري من المكان. وأستعيذ بالله من الجن والعفاريت.. ذات يوم أثناء اليقظة، لم أرى غيري، وأمامي مباشرة الكرة الأرضية تدور حول نفسها. شلني المنظر فلم أستطع الهروب من مكاني. كنت وكأنني مشدودة للأرض التي تدور أمامي. وعندما استعذت باللة من شدة الخوف، رأيت المجرة بكاملها كدوامة تدور في الفضاء. رأيت المجرة ورأيت الفضاء. رأيت مجرات أخرى حولي وأتربة كونية، ومدارات وكواكب ونجوم.. ساعتها توقفت عن الاستعاذة، وتذكرت ميزة أن يظهر لي عفريتاً في الزي المدرسي.

لفترة ظننت أن شقتنا مسكونة بالعفاريت، أو مشحونة بطاقة غريبة نابعة من تاريخ المكان الذي نعيش فيه أو ما شابة. فلم تكن هذه الخيالات تتراءى لي سوى داخل الشقة. مرت سنوات. وأعتدت على هذه الخيالات. صار ظهورها واختفائها وتنوعها لا يخيفني. صار يؤنسني. وكنت صامتة لا أحدث بها أحداً. حفظت سر وجودها. وتشجعت، بالكتابة، ذات مرة لأفتح الباب للأسرة المحبوسة في الجدار. فردا فردا بدأت أستدعيهم، وأكتب عنهم ما كانوا يتمنون أن يحدث لهم لو كانوا بشراً، بينما أعيش معهم حياتهم البائسة كأشباح لا يقدرون على شيء من المادة، يحسدونني على جسمي وعلى أعصابي وقدرتي على حمل الأشياء الثقيلة، بل وحمل القلم نفسه كان بالنسبة لهم أمراً معجزاً. كنت مراسلتهم إلى عالم المجسمات الجماد منها والحي. أديت المهمة، وكانت رواية "درس الأميبا"، هذه هي أحلامهم وآمالهم التي لم يكونوا ليؤذوني لو لم أحققها لهم، لكنهم كانوا سيبقون حبيسي الجدار. أما شخصياتهم الأصلية، طبيعتهم، حالات حركاتهم في المكان وعلاقاتهم ببعضهم وبي، فهذا ظل سراً محفوظا بينناً، ووعدتهم ألا أفشيه أبداً. حققت لهم أمنيتهم فرحلوا. ومن وقت لآخر كانوا يزورونني عندما يطرأون فجأة في الذاكرة. يزورونني بشخصياتهم الحقيقية، لا بالصورة التي أرادوني أن أجعلهم عليها في كتابتي. وحتى الآن يحفظون الجميل.


*****


أميرة الجنوب


ولدت عام 1972. أي أنني لم أشاهد أي حرب مصرية ضد محتل. صحيح كانت هناك حرب 1973. لكنني كنت ساعتها مازلت رضيعة. مع ذلك حلمت بها ذات يوم. أميرة من الجنوب. شابة يافعة في الثامنة عشر من عمرها تقريباً. ترتدي ثوبا من الكتان عاجي اللون، وعلى كتفها عباءة ملكية حمراء من المخمل. شعرها الأسود الطويل مجعد وهفهاف. يزينه وشاح أبيض طري شفاف وقصير كالمنديل من الخلف مرتبط في طرفيه سلسلة معدنية فضية اللون يتوسطها عند الجبهة قرص يشبه قرص الشمس بأشعة فضية مموجة. وفي مركز القرص توجد ياقوتة كبيرة حمراء. كانت هذه الأميرة تمشي على خريطة مجسمة لمصر من الجنوب الشرقي متجهة في الصحراء الشرقية صوب النيل. خلفها كان سرب من أربعين نفرا يتبعونها. كان الجميع يتحركون على الخريطة المجسمة تماماً كما تتحرك الطيور في السماء مواسم الهجرة، متجنبة الرياح المعاكسة والمطبات الهوائية.. في قدميها نعلٌ من الجلد به سيور تربطه بالقدم. عندما وصلت إلى النيل مشت بحذائه فترة ثم عبرته وانحرفت غرباً. كانت رحلة فيها تصميم وإصرار بحيث لم تكن تنظر أبداً خلفها ولم تكن تعرف حتى أن أربعين نفرا خرجوا وراءها تأييداً. أثناء قيامها بهذه الرحلة، كان هناك مستعمرون همج ما آتون من خلف البحر المتوسط، وقد دمروا كل مدينة دخلوها وقتلوا وشردوا وقطعوا نخيلا. أخبارهم المشئومة كانت تتقدمهم. وبينما هي في رحلتها هذه مصممة على رؤية ملكهم، كانت جحافلهم تتقدم في ليبيا. لم تستطع أن تصل إليهم قبل أن يدخلوا مصر. قابلتهم في إحدى الواحات التي تتوسط، وقد تكون أقرب للشمال من الوسط، الصحراء الغربية. ثم حدث قطع. ودخل مشهد جديد حيز الحلم. كانت الأميرة الجنوبية التي تطل أرض عشيرتها على البحر الأحمر من الناحية الشمالية الشرقية، تعتلي عربة خشبية مذهبة يجرها حصانان أسمران. كانت هي التي تسوق العربة. وبينما كانت تلف متفادية تل رملي كبير، ظهر لها رجل من الجهة الأخرى للتل على قدميه بملابس حربية. ظنت أنه هو ملكهم. استوقفته فوقف مبهورا بجمالها. قالت: أيها الملك الآتي إلينا غازياً، ثمار نخل هذه الأرض لزارعيه. فإن كنت غازيا تبغي ملكاً، فالملك لك وحدك شريطة ألا تقطع نخلة، ولا تسفك دماً ولا تلوث ماء النهر. انبهر قائد الجيوش والمخطط الحربي للملك الغازي بهذه العقلية الزاهدة في السلطة، الحامية لعناصر الحياة، فخر على ركبتيه احتراماً وافهمها أنه المخطط الحربي وقائد الجيوش فقط. وإنه أمام ما قالته لا يملك سوى الطاعة باقتناع واحترام. وأنه من هذه اللحظة لن يشارك في الحرب ضد أهل هذه الأرض الذين يفكرون بهذا الشكل. كما أنه سيتوقف عن التخطيط الحربي لصالح ملك ليس سوى متعجرف أرعن أمام هذه الحكمة وهذا الكرم من الأميرة.

عرف بعض الجنود بالأمر فابلغوا ملكهم الذي ما إن أدرك أنه فقد قائد جيوشة، ذا الحنكة والذكاء اللازمين لتخطيط حرباً، خشي أن يشن هذا القائد مع أميرته المحبوبة حرباً مضادة. فأمر بدخول البلاد، وسفك الدماء وقطع النخل ورمي الجثث في النيل. ثم قبض على قائد جيوشه وحبسه في قبو له بوابة حصينة. بمعاونة العشيرة، وبالحيلة، استطاعت الأميرة أن تجد طريقة لفتح باب السجن ليلاً في محاولة لتخليص هذا الرجل النبيل الذي أحبته. ولما رآها قائد الجيوش تدخل عليه السجن فاضت عاطفته وظل يعانقها وينهال عليها بالكلمات العاشقة. بينما هي متوترة تحاول أن تجعله ينتبه إلى أن الوقت ليس في صالحهما، وأنه عليهما أن يخرجا من السجن أولا ويهربا بعيدا عن معقل الجيوش وبعدها يمكنها في أمان أن يتبادلا أمور العاطفة. لكنه كان منجذباً لا يستطيع التفكير بالعقل أمام فرحة رؤيته لها مرة أخرى وفرحة شعوره بالقدرة على الخروج من السجن.

وأثناء ذلك أبلغ الحراس الملك بما يحدث، فجاء إلى السجن. في الحلم، رأيته. ربعة متين البنية بشعر أشعث، واقفاً أمام باب الزنزانة، عاقداً يديه. ينظر إليهما ويبتسم في خبث.

بعدها لم أر شيئاً. فقط إضاءة باهرة كأنه ماس كهربائي. واستيقظت. بالكاد يمكنني التنفس. وكأنما الهواء انكتم في رئتي ولم يعد يريد أن يخرج زفيراً. شهقة. غصة. وعيوني مفتوحة عن آخرها، مشدوهة، مصعوقة. متذكرة كل التفاصيل. تفاصيل الصورة. تفاصيل الأحداث. تفاصيل الحوار والشعور. انتهى الحلم هكذا، بنهاية مفتوحة على لحظة تشويق. عاودت النوم لربما تأتيني بقية القصة. ربما أعرف نهايتها. لكن شيئاً من هذا لم يحدث. استيقظت في الظهيرة. وشعرت بالسخف والسخرية من النفسي. فماذا أنتظر من أضغاث أحلام؟... قلت لنفسي قد أكون شاهدت فيلماً ذات يوم ما هذه قصته وقد عادت لسبب أو لآخر إلى مقدمة الذاكرة اللاواعية.. شعرت بالخجل من نفسي فقاومت الحلم وتناسيته وواصلت مسار حياتي نافضة عن ذاكرتي هذا الحلم السخيف.


****


رحلات زمانية ومكانية


كنت ذاهبة إلى مكان تجمع المثقفين أحد أيام الثلاثاء بعد يوم شاق داخل جاليري الفن التشكيلي المعاصر الذي كنت أعمل فيه. حاملة على كاهلي ثقل اليوم الطويل، ومشفقة على نفسي من عبء كبت انفعالاتي وأفكاري وهلاوسي أمام هذه الصفوة المفكرة التي لا تؤمن بالميتافيزيقا.. بروح ساخرة لا مبالية اتخذت مسافتي المعتادة بيني وبين اكتئابات أو معاكسات أو صفقات الحاضرين، ودخلت. كانت سيدة سويسرية في الأربعينات من عمرها تجلس إلى أحد أصدقائي. لم يكن يعرف سوى اللغة العربية وهي لم تكن تعرف سوى الفرنسية وانجليزية لا بأس بها.. كانا يبدوان متفاهمين جداً. هو في حالة سكر بين وهي منهارة من الضحك. طلب مني صديقي أن أترجم بينهما. وكنت لا أفهم ما داعي اللغة ماداما متواصلين بدونها.. فبدأت أتحدث إليها. تصادقنا بسرعة. وبدأ هو يشعر بأنه غير متابع لما يدور حوله فتركنا وانضم إلى طاولة أخرى. قالت بيرناديت: طبيعتي ألا أنفتح على الناس بسرعة هكذا، يلزمني على الأقل أسبوعين مع أي شخص آخر حتى أقرر إن كنت أطلعه على ما أطلعك عليه الآن في لقائنا الأول.. أخبريني بتاريخ وساعة ميلادك..ينبغي عندما أعود إلى بيتي أن أفحص خرائطي الفلكية ربما نكون قد تقابلنا في حياة أخرى.. انتظري مني مكالمة تليفونية.

ذهبت بيرناديت بعد هذه الجملة. وبقيت وحدي على الطاولة. أتذكر ما حدث في بداية اليوم، وبينما أنا في الطريق إلى العمل، مستقلة الأتوبيس العام، لمحت "أميرة الجنوب" أو طيفها يمر في الشارع بينما تنظر لي.. كان طيفها يرتدي الثياب ذاتها التي رأيتها في الحلم. وكانت تنظر لي كأنما تريد أن تبلغني شيئاً. كأنما تنتظر مني أن أفعل شيئاً. ذهلتني رؤيتها هكذا في الشارع. لم يكن قد حدث لي من قبل أن خرجت موتيفة من أحد أحلامي لكي تتجول أمام عيني ضمن الخيالات المتجولات في واقعي النهاري.. لم أخبر أحداً بهذا ذلك اليوم. ولا حتى بيرناديت التي بدت لي الشخص المناسب تماماً روحياً وخبراتياً مع أمور الروح لإبلاغه بأمر كهذا.. لا أستطيع القول بأنني لم أصدق عيني. كيف لا أصدقهما! كنت فقط مذهولة ومنتبهة لأقصى درجة... ماذا يحدث لي؟...

اتصلت بي بيرناديت بعد أسبوع من لقائنا الأول. خلال هذا الأسبوع كانت أميرة الجنوب قد ظهرت لي مرة أخرى في الواقع النهاري. في المقهى. كنت في حالة مزاجية سيئة سببها تشتتي الاجتماعي والثقافي المعتاد... ظهرت أميرة الجنوب لي وقد خلعت صندلها ووضعته بجانبها، وجلست على الأرض في ركن المقهى، جوهرة تاجها على الأرض، تضربها بشاكوش في حزن شديد وغضب نابع من شعور بظلم ما. كانت تنظر لي نظرة تأنيب، وكأنما تقول بسببك لن تكون لجوهرتي حواف..

لم أستطع أن أتحمل هذا المنظر، ففرت إلى أول تاكسي متجهة إلى البيت.. في التاكسي، أخرجت ورقة وقلم من حقيبتي. رسمت خريطة مصر. ورسمت على الخريطة خطاً يشبه مسار رحلتها... كانت متجهة إلى ليبيا.
في البيت حاولت سدى استحضار صورة أميرة الجنوب لتخبرني ماذا تريد مني، قطع جرس التليفون تركيزي. كانت بيرناديت. قالت: تعالي حالاً. كنت قد رسمت بورتريه بالقلم الأزرق الجاف لأميرة الجنوب. وضعته في الحقيبة وخرجت إلى بيت بيرناديت. كنت قد نسيت تماماً موضوع خرائطها الفلكية هذا. لكني كنت متأكدة أن أميرة الجنوب كانت أنا في حياة سابقة، أو أختي (معادلي) في حياة حالية في مكان آخر.

بيرناديت جلست على وسادة عالية فوق الأرض، وأجلستني على مقعد عالي الظهر والأرجل. حقيبتي على رجلي والخرائط على قدميها. قالت: "من الطبيعي جدا جدا أن أشعر تجاهك بكل هذه الحميمية في فترة قصيرة. لو تعرفي كم الحيوات السابقة التي تقابلنا فيها ستدهشين.. سأخبرك عن أهم هذه الحيوات فقط فهي كثيرة.. مرة كنا أختين. وكان بيننا عواطف العشاق فعوقبنا في الحياة التالية بيننا بأن نكون أخان، كل منا يحارب من أجل قضية منافية لقضية الآخر، فتحاربنا وقتل أحدنا الآخر. هكذا عوقبنا في الحياة التالية بيننا لأن نكون صديقتين في المدرسة، أنت أحببت شاباً خطفته أنا منك لمجرد الأنانية. فعوقبت هذه المرة بأن تنفى روحي إلى بلد باردة وأولد في سويسرا، بينما تسكن روح هذا الحبيب ابني بحيث لا يمكنني في هذه الحياة فعل الخطيئة ذاتها التي فعلتها سابقاً. أما أنت فلم تدافعي عن حبك. هكذا نحن هنا الآن وبيننا كل هذه العلاقات الحميمة السالفة. وأنا هنا وأنت هنا.

اندهشت لخرائط بيرناديت، ومنها تذكرت خريطة مصر التي كانت الأميرة تمشي عليها. أخرجت الصورة التي رسمتها لها وعرضتها على بيرناديت. أخذت تتأملها بينما أحكي لها عن الحلم والهلاوس البصرية التي انتابتني بعده. قلت لها أيضاً أنني أفكر في الذهاب إلى ليبيا لكي أكمل للأميرة مسيرتها التي انقطعت وسط الطريق. بدا على بيرناديت القلق ومحاولة الظهور بمظهر لامبالي. سألتها ما رأيها في هذا الحلم وهذه الهلاوس.. قالت : قد تكون الحدود التي ينبغي عليك أن تعبريها ليست حدوداً جغرافية. قد تكون حواجز نفسية أو اجتماعية ما..
برغم كلام بيرناديت سافرت إلى الاسكندرية. أخذت نهاري على البحر بالقرب من قلعة قايدباي. جلست على سور الكورنيش وجهي للبحر وظهري للطريق.. تذكرت كلماتها: "ابني الآن في سيسيليا، مع فتاة إيطالية من الجنوب يحبها حب جنون.. لو لم يكن كذلك لقلت إنه سيعود إليك في هذه الحياة. لكنني متأكدة أن تعويضاً عاطفياً ما سيأتيكي من وراء البحر المتوسط." كان ذلك عام 1997.

قرب العصر، أخذت الميكروياص المتجه إلى بن غازي.


******

الأسكندرية – بنغازي


أول سؤال على الحدود: لماذا أنت ذاهبة إلى ليبيا وحدك بدون أخ أو زوج أو أب أو إبن؟
الإجابة: زوجي ينتظرني هناك.
السؤال الثاني على الحدود: وماذا ستفعلين في ليبيا؟
الإجابة: أرى زوجي. هو يعمل مدرساً هناك.
السؤال الثالث: ما اسمه؟

ألقيت على عسكري الحدود أي اسم ثلاثي خطر في بالي. تركني وبدأ يسأل الرجال والنساء الآخرين الموجودين داخل الميكروباص. كل معه زوجته أو أمه. وكان العسكري ما إن يطرح السؤال الأول على واحدة إلا وتصدى له قريبها ليقول إنه معها. هكذا كان العسكري يعفيهما معا من السؤال الثاني والثالث. وبعد ان فرغ العسكري من استجواب الركاب وختم الجوازات انسحب ليحل محله رجل يسأل: عملة... عملة..عملة...

فكرت أن أغير عملتي في ليبيا. في أحد المصارف أو مكاتب الصرافة. فمازالت في دمي الجينات العائلية المحافظة التي تجعلني لا أريد أن أغير عملتي بطريقة خارجة عن "الأصول"، حتى لو كانت السوق السوداء ستكسبني أكثر. كان معي دولارات وقليل من الجنيهات المصرية وحليي الذهبية بفواتيرها.

مر نهار وليل بينهما العديد من نقاط التفتيش على الطريق. الأسئلة ذاتها والإجابات ذاتها. فقط بعض الأصوات الرجالية تتداخل: بكم؟ مستحيل! أنا اشتريته أغلي في النقطة اللي فاتت! ضحكوا عليا ولاد الحرمية!..

كنت أنظر من النافذة. تشغلني الصحراء. في عنقي الطوق الفضي الرفيع الذي يحمل جعراني الفيروزي المفضل، وفي يدي الصورة التي رسمتها لأميرة الجنوب من وحي أحلامي. على رأسها جوهرتها الحمراء القانية الشفافة. وأفكر ماذا سأجد في ليبيا؟ هل سأكمل رحلتها فعلاً؟ هل كان ينبغي أن أخرج من القاهرة بدلا من الأسكندرية كي أنطلق بالتحديد من النقطة التي توقفت هي عندها؟ هل كان توقفها في القاهرة؟ لا كان في الفيوم. أو ربما في سيوة. لا أعرف. كان في واحة ما. ومن الواحات التي أعرفها ليس هناك مواصلات إلى ليبيا.. ليبيا؟ كلما أخبرت أحد أصدقائي أني مسافرة إلى ليبيا نظر لي باشمئزاز:مش حرام عليكي! معاكي فلوس، روحي سوريا روحي لبنان مش ليبيا!... لكنهم لا يعرفون ما أعرفه. ولا ينتظرهم ما ينتظرني. إنهم لا يفهمون ليبيا. لا يعرفونها كما أعرفها.. أعرفها؟ هل أعرفها حقاً؟ أدلتي تأتي من حلم. وأدلتهم تأتي من قنوات إعلامية. في النهاية لا هم على حق ولا أنا. لكن على الأقل أنا عندي هدف. سأكمل مسيرة أميرة الجنوب. تلك المسيرة التي قطعها لقاءها بمخطط الحروب.

فكرت أن حبهما قتلهما. فكرت أيضاً أن مخطط الحروب وقائد الجيش هذا لم يكن بالفعل يحبها. بل كانت خطته أن يوقعها في حبه وكان متفق مع ملكهم أن يقوموا بتمثيلية وضعه في السجن هذه للقبض على الأميرة العاشقة التي ستأتي لإنقاذه..وبالتالي أسرها والاستيلاء على أرضها وشعبها ونخلها.. وإلا لماذا أطال عناقه لها داخل الزنزانة إلى أن يأتي الملك ويحدث هذا الماس وانقطاع التيار عن الحلم؟.. أحسست بمرارة شديدة ووبخيبة أمل. وقررت ألا أحب رجلاً أبدا في حياتي هذه. وقبل الوصول إلى ليبيا شعرت أنني وصلت إلى ما كانت الأميرة تريدني أن اصل إليه. رميت صورتها من النافذة.. كنا على مشارف بنغازي. هناك لم أجد لنفسي هدفاً. أخذت أتجول على الميناء. أنظر للبحر. شكله يختلف تماما عن شكله في الأسكندرية. كان أكثر هدوءاً. وكأنني في السويس. يبدو أن المواني تشبه بعضها إلى حد كبير. حتى في مياهها.

وجدت كشك على البحر في مفترق الطرق بين اتجاهين. كشك برتقالي فاتح اللون. به سجائر ومشروبات غازية وبسكوتات. سألت الرجل بداخله إذا كان يعرف فندقاً قريباً. من لهجتي عرف أنني مصرية. قال إنه أيضا به عرق مصري. أمه مصرية وأبوه ليبي. أمه من الأسكندرية. دلني على أكثر من فندق على الميناء وقرب الميناء في المنطقة التي يقع فيها كشكه بحيث لا أحتاج لركوب تاكسي. قال إن السياحة مزدهرة على الميناء وسأجد فندقاً يقبلني. لم أدقق في جملته هذه لكن سعدت أنني سأجد فندقاً. حجرة فردية وحمام.

ذهبت إلى كل الفنادق التي وصفها لي. بدأت من يسار الكشك. في كل فندق السؤال نفسه: معك أخوك؟ أبوك؟ زوجك؟ لا يرضينا أن يكون سيأتي قريباً. ينبغي أن يكون معك ويكتب بياناته هو. لا نسكن امرأة وحدها. طيب على الأقل عمك؟ خالك؟ أين محرمك؟!

عدت للكشك مرة أخرى وأنا مرهقة تماماً. كلي عرق وقدمي تؤلمني، وآخر أمانيّ هي أن آخذ حمام ساخن. اعتذر البائع لأنه لا يملك مقعدا في الكشك. هو نفسه يبقى واقفاً هكذا طوال النهار. عرض أن يعزمني على حاجة ساقعة. وبرغم اعتراضي الخجول اللا إرادي، فتح البائع زجاجة ميرندا، هكذا دون أن يسألني! لم أكن أبدا أحب المياه الغازية ذات اللون البرتقالي. كنت أفضل السوداء. لكنني اضطررت مع كرمه أن أشربها! العجيب أنني عندما عرضت أن أدفع ثمنها قبل أن يأخذ ثمنها بالجنيه المصري لأني لم أكن غيرت عمله بعد. سألته أين يمكنني أن أغير دولارات. أسكتني بسرعة وقال هذا ممنوع في ليبيا. الدولار ممنوع تداوله. انتابني الرعب. كيف سأعيش إذاً؟ ما معي من عملة مصرية لا يكفي رحيلي. ينبغي أن أغير دولارات! أشفق على البائع وقال هناك فندق على يمين الكشك في آخر الميناء ممكن يقبل منك دولارات إذا رغبت في المبيت فيه. انشرح صدري وشكرت البائع بكل قلبي. ثم هرعت إلى هذا الفندق في آخر الميناء. ناداني البائع بلهفة وعندما عدت إليه قال: هذا الفندق مليء بالسياحة وستجدي ناس من جميع الجنسيات من مغاربة لخلايجة أما الشوام فنادرون. ماذا يجعلهم يسيحون في ليبيا بينما أمامهم فرنسا وأمريكا!...

لم أفهم ماذا يريد أن يقول هذا البائع.. لم يكن في كلامه ما يبدو مهماً لدرجة أن يناديني خصيصاً لسماعه!.. فكرت ربما يريد بقشيشاً مقابل خدمته.. قلت له، عندما أغير دولارات سأعود إليك.

في الفندق الذي وصفه لي سؤلت نفس الأسئلة. لكنه وافق أن يعطيني غرفة مزدوجة بحمام لأنه لم تكن لديه غرف مفردة شاغرة. واصر أن أدفع ثمن مرافق معي في الأكل والغرفة. اضطررت أن أدفع ضعف الطبيعي لكي أبيت وأستحم وأغير دولارات. سألني عن الحقائب. لم يكن معي سوى حقيبة يدي.

في المصعد، دخلت فتاة بشعر اسود خشن يبدو أنها فردته عند الكوافير. وبصوت أجش يوحي بكثرة التدخين والشرب قالت لي:
- هل أنت جديدة هنا؟
- نعم سكنت الآن
- وما رقم حجرتك
- 204 لماذا؟
- أنا في 208 لو احتجت للتحدث إلى صديقة.
- أشكرك بشدة.
- انت وحدك؟
- نعم.
- خسارة. أنت جميلة. هل عمي الرجال كلهم؟!
- أشكرك على المجاملة. (قلت مبتسمة)
- شعرك جميل. (قالت وقد بدأت تتحسس شعري بيديها بينما عامل المصعد لا يهتم.)
أصابني شعور بالاشمئزاز والصدمة. لحسن الحظ انفتح باب الأسانسير. قلت لها فرصة سعيدة وذهبت لكنها تبعتني. واستمرت في الحديث:
- لهجتك مصرية. المصريين هنا قلائل. أهلا بك.
- وانت من ليبيا؟
- لا أنا مغاربية.
لم أفهم ماذا تقصد. لم تحدد من أي دولة هي من دول المغرب العربي. لم أعر ذلك انتباها. قلت:
- أهلاً
- بالمناسبة، الليله هناك حفلة في الفندق أرجو أن أراكي فيها.
وصفت لي القاعة التي سيقام فيها الحفل وأخبرتني أن الفندق يقيم حفلا كل يوم، وأن هناك رقص. تخلصت منها بصعوبة ودخلت حجرتي. يبو أنها كانت حجرة خلفية لا تطل على شيء.

وبينما أنا في الحمام طرق أحد باب الحجرة. خرجت فوجدت مقبض الباب يتحرك من الداخل. انتابني ذعر شديد وسألت من بالباب. أجابني رجل بلهجة لا أعرفها (هذا أمر طبيعي فأنا لا أعرف أغلب اللهجات العربية). لم أفهم ما قال كان وسط الكلام حروف مثل: ابغي، بغي بغا.. لا أعرف.. كل ما أعرفه أن الذعر غلفني واحتلني. اتصلت باستقبال الفندق وقلت لهم أن هناك لص يريد أن يفتح باب حجرتي ويجب أن يستدعوا الأمن فورا. أجابني عامل الاستقبال بهدوء وكان في صوته ابتسامة. بعد ربع ساعة فتحت الباب، لم يكن هناك أمن، كذلك لم يكن هناك شخص على الباب. نزلت إلى قاعة الاستقبال كأن شيئاً لم يكن. وبابتسامة سألتهم متى سيتم تغيير عملتي؟ فقالوا غدا صباحا. لم يفتح أي منا لا أنا ولا عامل الاستقبال موضوع الرجل الذي كان على بابي.

خرجت لأتجول بالمدينة الساحلية. حقيبة يدي معلقة على ظهري وبها كل شيء. كان الشارع شبه خاوي وقد غربت الشمس وبدأت بعض أضواء مستعارة تعلن عن وجودها. كانت واجهة الفندق التي أسكنه أعلى هذه الانوار إبهاجاً. لمبات ملونة حمراء وصفراء وخضراء في سلاسل تزين الواجهة. ذهبت إلى بائع الكوشك كما وعدته. أخبرته إنهم لم يغيروا لي العملة بعد. سألني عن الفندق فقلت لطيف. الحمد لله. لم أشأ أن أخبره، هو الذي أكرمني منذ اللحظة الأولى، أن أول شعور انتابني بقوة في هذا الفندق هو الذعر.. بل هو أول شعور انتابني في البلد التي ينتمي هو إليها. لم أكن أريد أن أضايقه..سألني لماذا خرجت إذا بما أن الفندق أعجبني فأجبته: لكي أتجول قليلاً. هذه أول مرة أزور البلد وأنا دائما ما أجعل أول ليلية لي في مكان ليلة تفقدية. لم يكن ينظر إلى وجهي، كان ينظر بعيداً، ينظ حواليه بقلق، قال إنه ينبغي أن يغلق الكوشك وإنه ينبغي أن ارحل. سلمت عليه ووعدته أن أراه غداً.

كلما تذكرت أميرة الجنوب، بالتحديد اللحظة التي انتاب الحلم فيها شيء يشبه الماس الكهربي قبل أن افيق، أسألها في نفسي، هل كان هذا هو الذعر يا أميرة؟ الذعر ذاته الذي انتابني عندما حاول أحدهم فتح باب زنزانتي في الفندق؟ صديقتي السويسرية برناديت كانت تقول إن هناك حاجز ينبغي أن أتخطاه. لكنها أصرت إنه قد لا يكون بالضرورة مكانياً.. هل كانت فعلا تعني حاجزا عاطفيا؟ لكنني لست في علاقة، فهل يعني هذا أنني سأحب؟ هنا؟ في ليبيا؟ لا أعرف. برناديت قالت سيأتيكي الحب من الجهة الأخرى من البحر. لكن كيف أصدق خرافاتها. المفروض أنني عقلانية.. لكن أحلامي تدمر عقلانيتي. أحلامي وهلاوسي وهواجسي. كلها تدمر عقلانيتي. وهل ينبغي أن أتصرف فعلا بعقلانية؟ هل ينبغي أن افكر فعلا بعقلانية. حتى تلك اللحظة كنت أحاول أن أبدو كما يبدو أي كاتب متحرر. عاقل وهادئ ومتأمل، ولا يؤمن سوى بالحقائق العلمية والتفكير العلمي ويسخر من الميتافيزيقا وأمور الباراسايكولوجي الخ الخ.. كنت أحاول أن ابدو كذلك فقط. لكنني كنت أعرف أنني وفي عمق أعماقي أخدع نفسي. أفرض عليها الشخصية التي "ينبغي" أن تكون لي ككاتبة حتى "يعترف" بي الكتاب الآخرين بينهم. كم أنني سخيفة في حق نفسي. وضعيفة لا يمكنني أن أعلن عن نفسي مثلما وجدتها وكأنني أحتقرها أو كأنني أحاربها من أجل صورة "تليق بي ككاكتبة" أريد أن أكون عليها، لكنها في النهاية مجرد صورة، صورة مثل تلك التي قطعتها ورميتها من الميكروباص..

بينما أنا شاردة أفكر هكذا لاحظت أن سيارة تتحرك بهدوء وتساير خطوتي، وفيها شباب يقولون أشياء لا أفهمها ويخرجون أيديهم من النوافذ. خفت جدا فعبرت الشارع بسرعة ودخلت أول محل وجدته. كان مكتب سياحي له واجهة زجاجية وبداخله شاب وسيم بشعر أسود ناعم يجلس خلف الكاونتر العالي. أول ما دخلت، رنت أجراس التعاليق المعدنية التي فوق الباب، فقام الشاب مبتسما مثلما تحكم عليه وظيفته أن يكون، وسألني أي خدمة. لم أعرف بماذا أجيبه. هل أخبره أنني خائفة؟ هل أخبره أنني أحتمي بمحله؟ قد يطرده مديره. فجأة طرأت على رأسي كذبة. قلت له إنني أبحث عن عمل. طلب مني أن أجلس وتقدم من خلف الكاونتر ليجلي إلى المقعد المواجه لي.
- من لهجتك يبدو أنك مصرية
- نعم
- وما اسمك؟
- اسمي هدى
- وأنا أسمي أحمد. شرفتنا يا آنسة هدى. آنسة أم مدام؟
- لا أحب الألقاب. يا أحمد هل هناك فرصة عمل عندكم هنا؟ أنا خريجة آداب فرنسي ويمكنني أن أعمل بالترجمة أو العلاقات العامة أو أي شيء، فأنا أعرف انجليزي أيضاً، وألماني بسيط، وأستخدم الكمبيوتر.
- عظيم! أنا خريج آداب انجليزي جامعة عين شمس في مصر.
- عظيم فعلاً.

ثم أخذ يحدثني عن حياته الشخصية والعائلية وكيف أنه - هو أيضا مثل صاحب الكشك! من أب ليبي وأم مصرية من الأسكندرية. وأنا لا أعرف لماذا كلما تحدثت إلى أحد ذكر الأسكندرية وكأنه يدعوني إلى العودة من حيث أتيت، أو ربما ستكون لي مغامرة ما بيني وبين أحلامي في الاسكندرية.. لا أعرف سوى ان اسمها تردد على مسامعي في بنغازي وطرابلس أكثر مما تردد في القاهرة. قال أحمد إن والده كان يضرب أمه وهو لم يكن يحب ذلك وأنها عادت إلى أهلها في الاسكندرية بينما هو صغير، وكان يريد أن يعود معها لكن والده منعه بالقوة. وقد كان ساعتها صغير جدا لدرجة لا يعرف بيت أمه في الاسكندرية وحتى الآن هو يذهب كثيرا للأسكندرية لكنه لا يعرف بيت أمه. عندما أخبرته عما حدث لي في الفندق قال إن هذا طبيعي جدا. لأن هذا الفندق مخصص للمتعة، ليس بشكل رسمي طبعاً لكن الكل في الجوار يعرف، ونصحني أن أتركه فورا. نصحني أيضاً أن أذهب إلى طرابلس لأن الناس هناك أكثر تفتحا من هنا، كما أفهمني أن السيارة التي كانت تطاردني كانت على حق لأن من عرف هذا المكان أن الموامس فقط هن من يخرجن بدون محرم بعد غياب الشمس. وقال إنني محظوظة إنها لم تكن سيارة شرطة لأنه الشرطة لن تصدق أنك كنت فقط خارجة للنزهة، وكانت ستقبض عليك فوراً.

كنت أنظر لأحمد الوسيم، المفتقد لأمه، الغاضب على قسوة أبيه، وهو يتحدث. كان يبدو جميلا جداً. قلت له : أنت انسان جميل يا أحمد. يكفيني أنك تنصحني واثقا أنني لست مثل بقية فتيات الفندق. أخبرته أنني لا أملك ما يكفي للسفر إلى طرابلس لكن معي دولارات. قال هاتها. أخذها وأعطاني بدلا منها عملات ورقية ليبية كثيرة جداً. ثم أغلق محله وأخذني إلى موقف طرابلس. كان يجرني من معصمي كالعمياء. وكنت لا أبالي. فلم أثق سوى فيه داخل هذا البلد. ربما لأنه صدقني بالإضافة إلى كونه وسيماً قد تكون وراء الثقة به مغامرة..

أدخلني أحد الميكروباصات وقال لهم أنني أخته وينبغي أن الحق بأمه لأنها مريضة جدا، وطلب من السائق أن يحافظ علي كأخته، وأعطاه ثمن الرحلة. هكذا وودعني بسلام اليد من النافذة ولم يتحرك قبل أن يتحرك الميكروباص بي، في رحلة جديدة إلى طرابلس.


****

بنغازي – طرابلس

في أول سنوات الجامعة، ذهبت مع صديقة لي إلى أحد قارئي كف تعرفه. قال لي الرجل أن حياتي مرتبطة بشخص أول حرف من اسمه A. قد يكون أول اسمه بحرف الألف، لكن قد يكون ايضا بحرف العين. قال إن الحرف مكتوب في كفي بالحروف اللاتينية. كنت ساعتها مرتبطة بشخص أول حرف من أسمه "م" لذا لم أكن أريد أن أصدق ما قاله قارئ الكف. فقد قال أيضا أنني غنية. وقال أنني سأتزوج وأنجب أطفالاً، بل وتجاسر إلى حد القول بأنني في أواخر حياتي سأعيش مع ابنتي!.. لم تكن فكرة الزواج في بالي. كنت صغيرة وخائفة وأريد أن أتم تعليمي بنجاح. نجاح غير ملفت. لأنني أخاف لفت الانتباه. لكن لم يكن هناك مانع من أن أبدو شقية ومرتبطة بفلان أو فلان، لأن هذا كان يبدو ملائماً لصورة الآخرين عن الكاتبة الشابة المتمردة. في الميكروباص إلى طرابلس، فكرت في أنني فعلا متمردة، لكن ليس بهذه "الصورة". ليس بهذا الأكلاشيه.
فكرت أيضاً في أحمد. أحمد الفرنسي الجنسية ذو الأصل الجزائري الذي تعرفت عليه في كافيتريا السوروبون بينما كنت أنتظر زوجاً من الأصدقاء. كان ذلك في رحلتي إلى باريس عام 1995. كنت أريد أن أجلس على حافة النافذة الطويلة العريضة لكنني لم أستطع لقصر قامتي أن أقفز بالعلو الكافي لكي أصل إلى غرضي. عرض أحمد أن يرفعني. كان طويلا نحيفاًُ بشعر بني ناعم وبشرة قمحية.. وجهه أليف بابتسامة ذئب عجوز.. لم أكن بعد أعرفه. بعدما رفعني، ذهب وأحضر مشروبه وطفاية وجاء ليجلس إلى جواري على حافة النافذة. خلفنا كانت الخضرة جميلة وأمامنا كان باقي طلبة الدراسات العليا يشربون قهوتهم ويتحاورون في قاعة الكافيترية البنية اللون. بادرت:
- اللون البني طارد! أما الأخضر فمريح للقلب.
- صحيح. (قال مبتسما ثم أشعل سيجارة وعرض علي واحدة.)
وقبل أن يعرف اسمي أو أعرف اسمه، أخذت أحدثه - وجعراني الفيروزي معلق بالطوق الفضي في رقبتي – عن ألوان الطيف، والأهرامات الصغيرة الزجاجية التي كان يصنعها الفراعنة للاستشفاء ويضعونها على المنطقة ما بين الحاجبين، تلك المنطقة التي تسمى بالعين الثالثة. أخبرته أن الهرم الأخضر بين أهرام الطيف، كان للشفاء من أمراض القلب. سألني أحمد:
- أمراض القلب العاطفية؟ أم الجسمانية؟
ضحكت وقلت:
- الجسمانية مثل مشاكل شرايين القلب والدورة الدموية.
- انت في كلية علمية؟ (سألني. فضحكت وأجبته)
- لا! أنا أنهيت دراستي الجامعية. أنا خريجة آداب فرنسي جامعة القاهرة.
- أنتِ مصرية! كان يجب أن أخمن ذلك بسبب الجعران في رقبتك. ما اسمك؟
- هدى.
- هدى. اسم جميل!
- غريب تنطقه بسلاسة!
- نعم أنا جزائري واسمي أحمد. أعمل في الليسيه هنا، وأحضرالدكتوراه.

كان حذائي يؤلمني وقررت أن أذهب لأشتري حذاء بعد أن تأخر من أنتظر. عرض أحمد أن يأتي معي وأن يدلني على أماكن المشتروات الرخيصة إن كنت أريد ايضا أن أشتري تذكارات لأسرتي ولأصدقائي في مصر. مشينا نضحك في الشوارع وأنا أحمل حذائي في يدي وأمشي حافية.

في محل أحذية على الشارع دخلت. دخل معي أحمد وبدأت أقلب في المعروضات على طريقة سوق الموسكي والعتبة. أثناء ذلك كان أحمد يكلم البائعة ويقلب أيضا في المعروضات. وبعد 20 دقيقة تقريبا وجدته قريباً مني وأنفاسه في شعري يسألني:
- هل تجربي هذا؟ إنه رقيق مثلك وأنثوي. صناعة إيطالية.
كان في يده فرده حذاء أبيض من الكروشيه بنعل مغلف بالقماش الأبيض، وبشرائط على الجانبين. كان يشبه أحذية الباليه لولا كعبه الأعلى قليلاً.

لم أكن ساعتها قد قابلت بعد "برناديت" صديقتي السويسرية التي أخبرتني ان ابنها في جنوب إيطاليا. ولم أكن بعد قد حلمت بأميرة الجنوب. لكنني كنت قبل أن أسافر بأيام، في بيت واحدة من صديقاتي. وكانت عمتها تقرأ الفنجان. قالت عمتها ضمن ما قالته بينما تقرأ فنجاني أنني سأشتري حذاءً أبيض.. ألح أحمد على سؤالي إن كان ذوقه يعجبني. فأجبته بأنه ينبغي أن أجرب المقاس أولاً. جلس أحمد على الأرض وفي يده الفردة التي جاء بها وقال هيا يا سندريلا جربي فردة الحذاء. ضحكت وبرشاقة أفلام الكرتون وضعت قدمي في الحذاء الذي يا للبراعة كان مقاسي بالضبط!

قالت البائعة: 30 فرانك. دفعها أحمد. لكنها طلبت مني أن أختار حذاءً آخر هدية. كان محل أحذية حريمي فقط لهذا لم أستطع اختيار شيء لأحمد. لذا اخترت حذاءً لأمه.

لا أعرف لماذا تذكرت أحمد الجزائر فور تحرك المايكروباس بعيداً عن أحمد ليبيا. كان في عيني كل منهما شيء مشترك. حنين ما. حنين إلى بلد الأم. نظرت حولي في الطريق، كانت هناك عمارات كثيرة غير مكتملة البناء بحيث يشعر الواحد أنه في بلد كلها تحت الإنشاء. لم يكن الليبيون الذين يركبون معي المايكروباص يشبهون أحمد: لم يكن أي منهم يبتسم. ومن ابتسامة أحمد ليبيا تذكرت ابتسامة أحمد الجزائر. إنهما يشتركان في ابتسامة واحدة أيضاً. ابتسامة تشبه أن تقابل قريباً لك صدفة بينما أنت في المنفى. قريب يذكرك بوطنك.. هكذا ظل أحمد ليبيا يحكي عن الأكندرسة ويريدني أن أحكي له عنها. وبقي أحمد الجزائر يريدني أن أحدثه بالعربية بدلا من الفرنسية. برغم أنني لا أفهم لهجته الجزائرية. كان يقول:
- تصنعي أنك تفهمينني! ثم إنني أنا أفهمك! أريد سماع العربية.
- ما رايك يا أحمد، لا جزائرية ولا مصرية. هل تحب فيروز؟
- فيروز هي القومية العربية، يا مرسال المراسيل ع الضيعة القديمة..
- خد لي بدربك ها المنديل واعطيه ل حبيبي..
- هاي! صوتك ملائكي يا هدى! غني غني!

كان صوته شديد العلو والنشاذ. لكنه كان متحمساً جداً. أنا كنت أحاول ألاّ أفقد التون والإيقاع. كان قد نسي بعض الكلمات وتذكرها عبري بينما نغني. وعندما انتهينا قال:
- هدى. أنا أكبر اخوتي. عندي ثلاث أخوات. وفقت في تكاليف تزويجهن بعد وفاة الأب. الآن أعيش مع أمي. عمري الآن 38 سنة هل تعتقدي أن سن الزواج فاتني؟
- لا بالتأكيد! هناك رجال يتزوجون في سن أكبر من ذلك بكثير..
- إذاً هل توافقين على الزواج مني؟
- لا أعرف.. لم أتوقع هذا الكلام.. دعني أفكر.. الآن سأعود إلى الفندق. سأسافر بعد غد، غداً نتقابل وأخبرك برأيي.
- لماذا الفندق، يمكنك أن تبيتي عندنا أنا وأمي!
- لا أريد أن أذهب إلى الفندق.. كي.. كي أرتب حقيبة سفري..

تركت أحمد عند محطة "سان ميشيل". وتواعدنا أن نتقابل اليوم التالي في محطة سان ميشيل الثانية عشر ظهراً لأخبره بقراري. طبعاً في تلك اللحظة كنت قد قررت ألا آتي إلى المحطة ولا أخرج من الفندق حتى ميعاد السفر خوفاً من أن يلاحقني. لكنني فكرت بينما أنا في حجرتي في الفندق قرب "نانتير" أنني لو هربت منه هكذا أكون خسيسة جداً لأني على الأقل لم أحترم النهار المبهج الذي قضيناه. لم أكن أريد أن أعامل شخصاً صدقني هكذا بخسة الهروب لذا قلت لنفسي إنه من باب الاحترام له قبل، أن يكون لي ،ينبغي أن اقابله وأواجهه بأنني لا يمكنني أبني حياتي على حنينه للغة العربية! وأنني لا أملك مثل هذا الحنين. بل ولا أحب فكره أن يحن المرء أصلا. ثم إنني لي أم وأب في مصر ولن أتركها لآتي وأعيش معه هو وأمه. كما أنني لا أحب أن أعيش خارج القاهرة!

عندما عدت اليوم التالي لأقول له هذا الكلام. سحبني من يدي في المحطة ورفعني لأعلى وقال: عندي مفاجأة!

جلسنا في أحد المقاهي. أخرج مظروفاً من جيبه وقال لي القي نظره على هذه الصور. كانت صوراً لتفاصيل داخلية وخارجية لبيت جميل به حديقة خضراء رائعة. قال أحمد:
- هذا بيتي. في ضواحي باريس. بيتي أنا وليس بيت أمي. أنا بنيت هذا البيت بنفسي. هل يعجبك؟ هل يصلح لنا؟...

في المايكروباص، كنت أفكر. لم أكن ساعة ما عرض علي أحمد هذا البيت قد تعرفت على برناديت التي قالت لي أن الحب سيأتي من الجهة الأخرى من البحر المتوسط. قد أكون أخطأت في رفض أحمد الجزائري. هكذا كنت أفكر في الطريق إلى طرابلس. كلام قارئ الكف، وككلام قارئة الفنجان وكلام برناديت.. كله يؤكد أنني ضيعت فرصتي في الحب. لكن أميرة الجنوب كانت تقول عكس ذلك تماماً. كانت نهاية الحلم تحذرني من الوقوع في الأسر بسبب الحب. أظن أن هذا هو ما كان سيحدث لي لو كنت قبلت الزواج بأحمد ذي العروض الفخمة حول البيت الجميل والجنسية الفرنسية. كانت هذه العروض تصيبني بالاشمئزاز والشعور بالشفقة. لم يكن من الممكن أبداً أن أحب شخصاً واشفق عليه.

وصلنا طرابلس وأنا على يقين أن هذه الرحلة خصتني بها أميرة الجنوب لكي أكمل مهمة بدأتها هي. ظهرت لي وكأنما تريدني أن أنقذها. ثم قادتني إلى رحلة اكتشاف تنقذ فيها نفسي.


*****


مسألة جغرافيا

لم يعد يعنيني السبب الأساسي من الرحلة إلى ليبيا. بدا لي هذا السبب واهياً وسخيفاً. أن أكمل الرحلة التي بدأتها أميرة الجنوب.رحلة مقاومة المحتل وتحرير الوطن..هذا أمر مضحك..لكن الرحلة ذاتها أخذتني. ليس الرحلة إلى ليبيا، بل مسألة أن أرحل.. أنا أعرف نفسي.. أحب شعور السائح. أحب الاغتراب عن بلدي. أحب أن أتفرج على الأشياء حولي بمسافة التأمل عن بعد دون الانخراط في تفاصيلها وأحشائها. أفضل التماس عن التفاعل. هذه أنا، أعرفها جيداً. ولهذا أحب القاهرة جدا. القاهرة مزدحمة ومكتظة. القاهرة طاردة. هذه ميزتها. وأنا عندما أعتبر القاهرة هي المقر الخاص بي، تدفعني القاهرة للسفر. ولأنها مقري، تدفعني للعودة، حتى أنطلق من جديد، من على أرضها إلى رحلة أخرى.. زمانية أو مكانية، خيالية أو واقعية. كلها رحلات تؤكد على وضعي كغريبة في أرض ليست مستقري. وهذا أفضل بكثير من الشعور بالغربة داخل أرضي.. لهذا أحب مستقري الطارد – القاهرة – ولهذا أحب السفر. إنه الطريقة الوحيدة لأن أجد مبرراً منطقياً لشعوري الدائم بالغربة: أنا لست في بلدي.

مع ذلك كان أول ما وقعت عيني عليه في طرابلس هو محل فول وفلافل. ابتسمت. كان المحل عبارة عن زاوية من الرخام تغطيها من أعلى قوائم معدنية وزجاج. دخلت:
- صباح الخير. ممكن طبق فول بالزيت الحار والطحينة وبازنجان بالثوم؟
- يا أهلا يا أهلا. لهجتك مصرية، شرفتي البلد، سياحة أم عمل؟
- سياحة. (كذبت) رحلة برية إلى المغرب.
- تفضلي يا هانم، المحل زاد نوره. أنا من دمياط وعندما جئت هنا كنت وحدي. سرحت بعربة فول، ولما استقر الحال فتحت هذا المحل وتزوجت وجلبت زوجتي وإخواني للعمل معي هنا. الرزق كتير والحمد لله.
- الحمد لله. تعرف فندق هنا ممكن يستقبلني وحدي؟
- لماذا، أليست رحلتك البرية للمغرب رحلة سياحية؟ أي مع فوج سياحي؟
- لا، أنا قررت أقوم برحلة فقمت بها.
- انت في ورطة؟ هربانة من حاجة؟ (همس لي البائع)
- لأ! لماذا تظن ذلك؟! ألا يمكن للمرء أن يتحرك وحده؟ هل ينبغي أن أتحرك في فوج سياحي حتى أكون غير موروطة أو هاربة؟ أنت نفسك قلت إنك عندما أتيت إلى هنا أتيت وحدك.
- لا مؤاخذة يا ست هانم أنا رجل، وأجري على أكل عيشي، وبلاد اللة واسعة. إنما حضرتك بقى.. (صمت).. شوفي يا هانم لو بنت اصول والحال انحدر بك أنصحك تذهبي للسفارة وهم يتولوا أمرك.

الصدمة التي صعقتني بسبب هذا الحوار جعلتني أدفع له بقشيشا كبيرا، حتى أجبره على شكري وأن يقول لي "ست هانم" مرة أخرى ولكن بمنتهى الاحترام، كأنه خدام عندي!..في البداية فكرت إنها مسألة رجل وامرأة. يعني تحيز نوعي. هو رجل، يظن أن هذا سبب كافي لكي يذهب إلى حيث يريد. أما أنا فامرأة ولا يجب أن أغادر داري إلاّ في مجموعة، اسرة، أو فوج سياحي. لكن مع الوقت طرأت على ذهني فكرة أخرى. ليست مسألة رجل وامرأة. فأنا عندما أذهب إلى فرنسا أو بلجيكا وأقابل بعض الأصدقاء المصريين أو العرب لا يظن أي منهم أنني "انحدر بي الحال" ولهذا اضطررت للسفر وحدي إلى هناك. المسألة ليست مسألة نوع وإنما مسألة جغرافيا. لو قابلت أي فتاة عربية سافرت وحدها إلى بلد أوروبي أو أمريكي تقول إنها بطلة ومتمردة على أوضاع التمييز ضد المرأة في البلدان العربية وتشجعها، أما إذا سافرت هذه الفتاة ذاتها وحدها إلى بلد عربي فقير أو تحت الإنشاء أو متزمت بعض الشيء ينبغي أن تظن فيها الظنون وإلاّ ما الذي "أجبرها" على السفر إلى هناك؟... أليس كذلك؟ هذه هي العقلية العجيبة المزدوجة التي نتعامل بها؟ أليس كذلك؟ وكأنه لا يوجد من ضمن دوافع السفر إلى هنا أو هناك سبباً اسمه "أريد ذلك"! بغض النظر عن التمرد على أوضاع ما، أو الهروب من ورطة ما!

خرجت إلى الشارع وأخذت أمشي غاضبة على غير هدى مستغلة فرصة أن الشمس ساطعة ولن يجرؤ أحد حتى تختفي الشمس أن يظنني مومساً...في باريس أيضاً، خصوصاً في الصيف، هناك موعد بعده ينبغي على المرء ألا يدخل الشوارع الجانبية والأزقة والحارات خوفاً من السرقة.. هذا الموعد ملزم للرجال والنساء معاً، خصوصاً الذين لا يحبون المغامرة بحياتهم في الليل. أما الرجال والنساء أيضاً الذين لا يخشون المغامرة فلا يلتزمون بهذا الموعد المتعارف عليه. في باريس غروب الشمس يكون على الرجال والنساء الحريصين. أما هنا فغروب الشمس على النساء فقط. كل النساء.

بسخط قررت أن أتعامل وكأنني في مصر! أوقفت تاكسي وقلت له أريد الذهاب إلى بيت الشباب. سألني وماذا تفعلين في الاستاد؟ قلت، لأ بيت الشباب! أليس هناك بيت شباب في طرابلس كما هناك بيوت شباب في القاهرة والمحافظات الأخرى في مصر. أنا مشتركة في جمعية بيوت الشباب الدولية ومعي كارنية ويمكنني أن ابيت في أي بيت شباب في العالم!

كان بالفعل بيتاً للشباب. للشباب فقط. لم تكن هناك أي سيدة أو فتاة. أخذ الصبية الصغار يرمقونني ببنطالي الجينز الأزرق وقميصي الكاروهات وشعري الأشعث كأنني شيطانة تنفتح على يديها أبواب الشر، أو ساحرة شريرة ستجلب معها كل المغريات. أو أضعف الإيمان، فتاة سهلة، وجودها يجعل العيون تحملق بخيالها في مغامرات غير مسبوقة! قد يكونوا أيضاً ينظرون لي وكأنني شحاذة أو امرأة تدعو للسخرية أو السخط. هكذا كان أغلب الصبية المراهقين يذهلون ثم يتهامسون ويضحكون، أما الشباب الناضج فكانوا يغضون الطرف ويلمحوني باشمئزاز. وبغض النظر عن تفاوت الحكم الواضح في النظرات، في العموم كنت أنا التليفزيون، المحطة المبثوثة حديثاً، والكل غيري متفرجين.

بسخط مضاد قررت أن افرض واقعي أنا. توجهت إلى أحد الصبية لأسأله إن كان هذا بيت شباب طرابلس. قلت: صباح الخير. فوجته ينظر في عيني بوله ولا يجيب. قلت:
- هل هذا بيت شباب طرابلس؟ وبنفس الوله والتوهان أجابني:
- ماذا؟
- هل هذا بيت شباب طرابلس؟ (قلت بصوت حاد ومنفعل فضحك الأصغر منه سنا وهربوا أما هو فظل على ذهوله حتى سئمت منه وأعدت السؤال على أحد الشباب الملتحين الساخطين فذهب ليخبر مديره.

خرج رجل بكرش كبير وجلباب أبيض ولحية. قال نعم هذا بيت شباب طرابلس. سألته إن كانت هناك حجرات شاغرة. فأجاب بالإيجاب. فرحت وأخرجت كارنية بيوت الشباب وبدأت بينما حقيبتي مازالت مفتوحة ويدي بداخلها أسأل الشيخ عن الرسوم المطلوبة. فأجابني:
- هل يمكن أن تنظري إلى اللافتة يا .. آنسة، أو مدام...! هذا ليس بيت شابات هذا بيت شباب.
- وأين بيت شابات طرابلس؟ (سألته بسخرية بينما صدمتني جملته)
- لا يوجد.

كيف يمكنني أن أُفهم هذا الرجل أن كلمة شباب هي جمع تكسير وليس جمع مذكر سالم؟ كيف أشرح له أن بيوت الشباب على مستوى العالم كله مقصود بها الشبان والشابات؟ حتى عندما أخبرته أن ما كتب على اللافتة هو "شباب" وليس "شبان"، قال:
- شباب، شبان، الكلمتان جمعان لكلمة شاب. أم أنك لا تعرفين اللغة العربية يا.. مدام؟

كلما اشتد غضبي اشتد ضحك الصبية الصغار. وكلما اشتد غضب شيخهم زاد صمتهم وانكماشهم قرب بعضهم البعض. لا أعرف كيف يمكنني أن أعبر عن هذا الشعور الذي يمكن أن ينتاب المرء عندما يغضب فيسخر من غضبه الآخرون.. لم يكن أمامي حيلة. تركت المكان مهزومة تماماً.

في الطريق إلى الخارج قابلني شاب بدا من لهجته أنه مصري. طلب أن يرافقني إلى حيث أريد حتى لا أتعرض للأذى وحدي. قال إنه يعرف دكتور في الجامعة يمكنه أن يساعدني لأنه مصري وأنه سيأخذني إلى سكن الأساتذة حيث يمكن مقابلة هذا الدكتور. وافقت على كل شيء بدون كلام. لم أكن في حالة تسمح بالتفكير. كان يمكنني أن اقول له أريد العودة إلى القاهرة. أن يدلني على الطريق إلى القاهرة من طرابلس. لكن شعوري بالهزيمة أمام صلابة شيخ بيت الشباب جعلني لا أريد أن أستسلم وأتقهقر من طرابلس هكذا بسهولة. زاد عنادي ما إن أدركت أن هناك طريق آخر للمبيت في هذه البلد، وذلك عبر التعرف على دكتور جامعة مصري يعمل في جامعة طرابلس. أما عن الشاب الذي اقترح علي هذه الفكرة فكان أصلاً من الأسكندرية وأسمه أحمد.


*****



طرابلس – القاهرة

- لا يغرنك أنني دكتور في الجامعة.. ينبغي أن أكون صريحا معك. لا يمكنني أن أفعل لك شيئاً. أغلبنا هنا لم يقبض راتبه لأكثر من ستة أشهر. وكلنا نتعكز على بعضنا البعض. البعض يرغب في العودة إلى مصر، لكن في النهاية نقول: نعود ونترك وراءنا ستة أشهر عمل بلا راتب؟.. نريد رواتبنا وكلما منعوها عنا كلما ازدادت رغبتنا في البقاء حتى لا نكون قد عملنا مجاناً. وهكذا أيضاً نجد أنفسنا نستمر بالفعل في العمل مجاناً.. العمل هنا محاط بمخاطر كثيرة.. منها مثلا....

ظل السيد الدكتور المصري يتحدث وأنا أتابعه باهتمام حقيقي لمشكلته. لم أعد أفكر في مشكلتي. بصراحة اعتبرت أن رحلتي انتهت عند بيت الشباب.. واعتبرت أنني الآن أتابع رحلة شخص آخر. رحلة دكتور في الجامعة جاء ليزيد من ماله فاكتشف أنه يعمل مجاناً.بينما أسرته في مصر في انتظاره تحلم بكل الوعود التي قطعها على نفسه تجاههم..

أخبرني أنه لا يستطيع مساعدتي مادياً لهذا السبب، كما أنه لا يمكنه أن يستقبلني في سكن الأساتذة هنا خوفا من القيل والقال الذي قد يودي ليس بسمعته فقط ولكن بحياته أيضاً، ولامني كثيرا لأنني قررت أن أسافر إلى ليبيا، وكانت نبرته توحي لي أنه كان يريد أن يلومني لأنني أتيت إليه هو بين كل الموجودين في ليبيا.. بابتسامة مسالمة أخبرته أنني لم آت إليه إلآ بعد الإلحاح الشديد من أحمد الذي قرر لي ذلك دون حتى ان يأخذ رأيي. أما أنا فكل ما كنت أريده هو أن يدلني على مكان أغير فيه دولارات حتى أتمكن من أخذ أول مايكروباص إلى القاهرة.

بدا على الدكتور الفرح أول ما سمع كلمة دولارات. وبدأت استضافته لي تصبح أكثر كرما كأن يسألني مثلا إن كنت أريد أن أشرب شاياً. ثم ذهب ليوقظ زملائه في السكن. الذين جاؤا واحتفوا بقدومي وكأنني "حاجة من ريحة الحبايب في مصر".. فجأة صرت مهمة وصار استقبالي طيباً.. كل هذا أكد لي أن الدكتور بلع الطعم. كل الحكاية أنني أردت مساعدته مادياً دون أن يشعر. فجعلته يشعر أنه سوف يحصل عن طريقي على صفقة رابحة. قال لي:
- الدولار هنا لا يغيره أحد
- أعرف لهذا أنا مستعدة لتغييره حتى ولو بنصف الثمن. أريد أن أعود إلى القاهرة، هذا كل ما في الأمر، وهناك عندي مالي وعملي ولن أحتاج هذه الدولارات..
- حسناً.. انتظريني قليلاً.. آه، بالحق، أين هذه الدولارات التي تريدين تغييرها؟
أظهرتها له ثم وضعتها مرة أخرى في حقيبتي. ذهب الدكتور وبعد نصف ساعة عاد قائلا:
- لا يمكن أن يتم تغيير الدولارات هنا، أنا طبعاً أثق فيك يا ابنتي، لكن زميلي الذي سيغرها لك يخاف من أن تكوني دسيسة علينا، لهذا يريد أن يأخذ الدولارات ويغيرها بمعرفته وعندما يعود يسلمني مالك الذي أسلمه لك أنا حتى لا تري وجهه.
- وهو كذلك. خذ، هذه هي الدولارات. أنا أيضا أثق بك يا دكتور.
التصقن على وجهه بسمة علايضة، وأنا أيضا لصقت على وجهي بسمة أعرض منها وكأنها أكثر سذاجة. لم يكن يهمني إن أخذ المال ووهرب به. كان معي ما يكفي للعودة. بعد نصف ساعة أخرى عاد. قال إن زميله ذهب ليغير العملة لي وأنه سيطرق الباب بطريقة معينة عندما يعود.

مر على ذلك ساعات كان النوم فيها يغالبني، لكنني كي أبقى متيقظة، أخذت أسأل الدكتور عن حياته زوجته وبناته في مصر.. ولما لم نجد ما نقوله، أنتبهت إلى الصبارات في شرفته وأخذت أتحدث معه عنها. فمنذ صغري وأنا أحب الكائنات الصحراوية، بالتحديد الكائنات التي لا تعتمد كثيرا على غيرها، الصبارات والزواحف ذوات الدم البارد.

عاد الرجل وطرق الباب ففتح له الدكتور ولم يظهر الرجل وجهه، لم أره أبداً. أعطاني الدكتور ما يكفي لسفري والشيء القليل أكثر. فأعدت له المبلغ كله وقلت له عندي ما يكفي سفري. فرح ولم يصدق "سذاجتي" وكان يبدو أنه يريدني أن أرحل بسرعة قبل أن أغير رأيي!.. تركته وخرجت من المبنى كله. كانت السماء مظلمة والمكان كله حالك السواد.. وكان الرعب يرجفني. لم أكن اعرف كم الساعة. كانت تبدو وكأنها ساعة موحشة جداً..

أخذت أمشي والرعب يكاد يجعلني أبكي من كثرة ما انتفض. مرت سيارة اجرة فأشرت لها بسرعة أن تأخذني إلى موقف ميكروباصات القاهرة. سألني السائق لماذا أنتفض هكذا محاولا أن يلمح عما قد يكون قد حدث لي "من أمر مشين". لحسن الحظ لم أكن قد ابتعدت عن سكن الأساتذة كثيراً. قلت للسائق أن زوجي يعمل في الجامعة وأننا تلقينا برقية تقول أن أمي مريضة مرض الموت، وهو لا يصدقني ويظنني أكذب عليه، وأنا خائفة جدا على أمي ولا يمكنني أن أنتظر حتى يصدقني لكي نذهب إلى القاهرة لنراها.. لهذا ينبغي ان أذهب حالاً. أما بكائي فجزء منه خوفا على أمي والجزء الآخر حزنا وصدمة في كون زوجي لا يصدقني..

لا أظن السائق صدقني. لكنها كانت حكاية يمكن بها أن يتابع السير. أوصلني إلى الموفق وهناك أخذت أول ميكروباص ذاهب إلى القاهرة. بلا أمتعة كما ذهبت وبلا مال أو ذهب أيضاً..

لم أشا أن آخذ الميكروباص الذاهب إلى الأسكندرية. فلكثرة ما ذكر اسم الاسكندرية وكثرة ما التقيت بشباب اسمهم أحمد وفيهم عرق سكندري، شعرت أن هناك مغامرة تنتظرني في الاسكندرية، وتزرع لي تلميحاتها في ليبيا. لم أكن أحتمل مغامرة تلو مغامرة.. كنت أحتاج لفترة راحة. لهذا آثرت أن أخذ الميكروباص الذاهب للقاهرة. وبدلا من التفكير في أحلامي وهواجسي، كنت أفكر ماذا سأقول لوالدي الذين تركتهم فجأة وسافرت. حتى محاولاتي أن أتصل بهم من ليبيا باءت بالفشل.. ماذا سأقول لهم عندما أعود هكذا فجأة مثلما اختفيت فجأة.. من المؤكد أنهما قد ابلغا كل أقسام الشرطة عن اختفائي..


*****



التمساح الحارس

هناك أحلام تمر ولا تترك أثراً، تماماً كالمعارف من البشر، وهناك أحلام قاسية كخيانة من تحب، لا يمكنك أن تنساها أبداً.. كما أن هناك أحلام ولودة، منها تخرج هلاوس وخيالات.. لو لم يكن هذا صحيحاً، فما الذي يبرر ظهور أسد أفريقي في مدخل المطبخ. أسد شعر رأسه عبارة عن بتلات زهرة عباد شمس عملاقة، تعرق لونا بنفسجياً، أو تمساحاً متجمدا أمامي بينما أنا جالسة على كنبة الصالة أشاهد التلفزيون، تمساح أخضر بعيون حمراء يتسلل من ركن المطبخ الشمالي الشرقي ليهاجمني، وما إن تقع عيني عليه إلا تغطيه طبقة من الثلج.. أشفق عليه فأمسح على ظهره بيدي حتى تزيل الطبقة الثلجية الجيلاتينية ويحل محلها طبقة زيتيه تساعد جلده على المرونة.. هذا التمساح ردا للجميل بقي يحرس باب شقتي، وبعد زواجي رحل معي إلى شقتي الجديدة، الآن كلما ذهبت إلى مكان أبيت فيه ولو عند أمي، صاحبني ليحرس بابي.. لو لم تكن هناك أحلام ولوده، فمن أين جاء هذا التمساح اللهم من حلم قديم بغابة أعبر تماسيح بركتها كي أصل إلى الطرف الآخر؟ في ذلك الحلم البعيد كنت ولداً طفلاً بخرقة وعصا يشبه تمثال "ديونيزوس طفلا" العاجي الموجود بالمتحف اليوناني الروماني بالأسكندرية. بعد أقل بقليل من عشرين سنة من ذلك الحلم، حلمت أنني غلام صبي أشقر بشعر اسود قصير وخشن، أقف على أرض ترابية جيرية، تبدو وكأنها أرض معركة، وخلفي عشة من القش محكمة الإغلاق على من فيها من أمثالي (أصحاب الأرض الذين تنكرت في الحلم في شكلهم وزيهم). هؤلاء الأسري، كانوا يعانون العذاب والإذلال. نظرت إلى ذاتي الحالمة وقلت وكأنني أنبهها: "نحن في المغرب" ثم أشعلت كبريتا وبه أحرقت العشة بمن فيها، فور وصول المستعمرين الغلاظ على خيولهم، وألقيت بنفسي على الأرض وكأنما مت أنا أيضاً بين من ماتوا من الأسرى..
فجأ، أنتقل الحلم إلى بيت جيري على أحد الطرز المغاربية، أبيض تأكله الرطوبة من شدة القدم والملح الذي ينهشه لقربه من البحر. أطفال كثيرون يجلسون بهمجية وصخب على كراسي من الخوص. وحبيبي ساعتها (زوجي الحالي) واقف أمامهم يحاول أن يدرس لهم اللغة الفرنسية. كنت أعلم جيداً في الواقع وفي الحلم أن حبيبي لا يعرف شيئاً مطلقا عن اللغة الفرنسية. في الحلم كنت أقف عن باب الفصل الدراسي المغلق. وأعرف أنني لا يمكنني أن أفتحه إلا لو استعنت بمادتي. كنت أعلم ايضاً أنني في الحلم مجرد صورة لي. لذلك لن يمكنني الدخول إلى الفصل عبر الإمساك بمقبض الباب وفتحه.. حولت نفسي إلى سائل فضي وتسربت كالماء من تحت الباب، وعندما وصلت إلى المكان الذي سأجلس فيه أعدت نفسي إلى الشكل الآدمي لكن على هيئة تلميذة نجيبة تعرف الفرنسية بطلاقة. وبدأت أحاور الأستاذ فيما يقول وأصحح له دون أن أشعره بأي حرج.. كنت متخيلة أنه سيعرفني تحت أي شكل، وأنه سيسعد بوجودي. لكنه بقى يظنني تلميذة، مشاغبة، وطرني من الفصل.. خرجت من الجهة المقابلة للباب حيث كان جدار قد اختفى ليدخلني إلى منطقة مظلمة جداً. وصوت أختي يحكي لي عن رحلة الشمس السفلية. وكيف أن حورس في مركبه السفلي يحمل على أفعى، وأن هناك ثلاثة ثعابين في انتظاره داخل الماء السفلي ليقلبوا مركبه أو يقضوا عليه. وبينما هي تحكي لي ذلك أرى الأفعى على تاج حورس تصدر أشعة حمراء تشوي الثعابين الأخرى وتحولها تراباً في لحظة. التفتُ بينما أنا جالسة، فوجدتني في بيت طفولتنا أنا وأختي. البيست الذي فيه حلمت أغلب أحلامي وشاهدت أغلب مشاهداتي. أنا أجلس على مقعد وثير قرب الأرض، وهي تجلس على مقعد عالٍ وتميل برأسها فوق رأسي، تحكي لي مستنكره ما حدث بعد أن تركت أرض المعركة إلى الفصل الدراسي. قالت أن الطاغية ملك الغزاه استعبد أميرتهم بعد أن قتل والديها. وبينما أختى تحكي لي، أثناء الحلم، كنت أرى في صورة الحلم المركبة على صوت أختي، موقع المعركة الذي كان في أول الحلم، والطاغية يجلس على كرسيه وسط الأرض الجيرية، بينما الأميرة تحلق له ذقنه، تمشط له شعره، تغسل له قدميه بل وتنظف أنفه. وافقة. وبينما أختي تقول مستنكرة: لا أعلم كيف يمكنها أن تقبل بكل هذا الزل، المفترض أن تغضب وأن تثور. وكلما سألتها لماذا لا تثوري؟ قالت: اصل كلي ثم أصل صُلّي!
نظرت إلى وجه أختى ثم نظرت إلى المشهد على يساري، فوجدت أن الغازي المستبد كان يطلب منها كل شيء قد يدعوها لأن تثور لكرامتها، كأنه هو الذي يريدها أن تغضب.. وكأن الغضب سيمكنه منها أكثر أو سيرضي شيئاً في نفسه.. كان في ذلك يشبه أختى، وبالرغم من ان الأميرة المزعومة، كان هي الغلام الصبي الذي تنكرت في هئته أول الحلم، لكنه قد اضطر للكشف عن شخصيته في نهاية الحلم باعتباره تنكراً لأميرة ما، إلا أن الأميرة لم تكن تشبهني، كانت بيضاء فارعة وسمينة بعض الشيء، بشعر أسود ناعم.. ومع ذلك فقد سمعت جملتها بينما تمشط شعر الغازي وفي رأسها أفكار تخطط لاستعادة الأرض، عندما سمعتها ناقضت أختي: لا يا أختي! كانت تقول: أصل صِلّي ثم أصل كلّي!.. هنا انتهى الحلم فجأة وفتحت عيني وكأنني لم أنم أبداً..

خرجت من الحلم متذكرة تماماً هذه الجملة. بحثت عن معنى كلمة صُل، فلم أجد شيئاً. بحثت عن معنى كلمة صِل، برغم أنني كنت متخيلة معناها، "الشخص الذي أصله، أي أتصل به" بذلك كنت متخيلة أن معنى الجملة: ينبغي أن أجد من يمكنني التواصل معه حتى أستطيع أن أشعر باكتمالي." ، بحثت. وبدون أن أبحث، مجرد أنني رغبت في البحث إلا والكلمة تتردد في كل مكان، في الراديو وفي التلفزيون وبين أصدقائي.. هكذا صدفة، ويتبرع الجميع لتفسيرها دون أن أطلب.. عرفت أن الصِل هو أفعى سامة مرتبطة في التراث الديني بالقبور، ففهمت ما الذي أتى بمركب حورس في رحلة الشمس السفلية. عرفت أيضا أن الصِل هو سم قاتل على الفور لأفعى ما، يخيل أنها الحية ذات الجرس.
بعد فترة من هذا الحلم، شبه طويلة، قابلت أحد أصدقائي المقربين جداً. وهو شاعر وصوفي متعمق. حكيت له الحلم فابتسم. قال: لا يعني أن الحلم بدأ في المغرب أنك في الحلم كنت في المغرب العربي، لكن تريد ذاتك الحالمة أن تقول لك أن هذا الحلم يبدأ من مغرب الشمس، أي هو رحلة عكسية ولا ينبغي أن تأخذيه كما هو، بل ارقبي عكسه. إنها شفرة تعطيها ذاتك الحالمة لك. ستدخلين حرباً وتنتصرين، وستقفين إلى جوار حبيبك ولن يخذلك، بينما أختك في الحلم تحاول مرتبطة بهذه الرحلة السفلية، إذ أنها بينما تحدثك بدون سبب واضح عن الحية في تاج حورس، تقول لك جملتك بالمقلوب.. من الطبيعي أن ينتهي الحلم عندما تعدلين أنت الجملة. لأنك رددت على ناقص واحد بزائد واحد حتى يتعادل الميزان عند مستوى الصفر.. فتفيقين..
- وماذا عن الجملة؟
- لا يمكن للإنسان أن يصل إلي شيء بعد أن يصل إلى كله. فالكل هو الله ونحن اجزاء نحتاج لبعضنا البعض. فمن الطبيعي أن يكون الوصول للكل هو نهاية الجملة ونهاية المطاف أيضاً
- وماذا عن الصُل أو الصِل هذا؟
- لا شيء يدعى الصُل في الصوفية. لكن هناك الصِل، وهو حيوان، يمكنك أن تعتبريه خرافياً، البعض يعتبره أفعى لها سم قاتل على الفور، وهي أفعى تنظر في وجه الإنسان فإن كان يتبع الحق تركته، وإن كان يتبع الباطل حولته إلى تراب. كما يظهر الصِل أيضا في أمور نادرة على هيئة تمساح بعيون حمراء، وهو تمساح حارس للحق، فإذا نظر إليه إنسان وهو على باطل تفحم، أما إذا كان على حق وصدق فيحرسه التمساح الصِل حراسته للحق والصدق طالما الإنسان عليها.
- أنا رأيته يا أيمن! كان يريد الفتك بي عندما خرج من باب المطبخ، لكنه الآن حارسي، وبيض صغاره يفقس في ركن المطبخ الشمالي الشرقي..


****



العسل المسكوب

هناك أماكن تثير الروح أكثر من غيرها، هناك كذلك اتجاهات تحفزها أكثر من غيرها.. في المكان، للروح جغرافيا تخصها. مثلاً، كل الكائنات الخيالية التي تأتيني، تأتي من الشمال الشرقي ، أينما أكون، تأتي هي من الشمال الشرقي. وفي الغالب لا يقع بيننا حوار إلا وأنا متجهة إلى الجنوب الغربي.. عندما انتبهت لهذه المسألة، لم أكن بعد قد قرأت عن السامانية. ذلك المذهب الذي يعتقد في أهمية الاتجاهات بالنسبة لرحلات الساماني في اكتشاف نفسه والعالم من حوله والطبيعة بكائناتها وأمزجتها.. هناك بوصلة. هذا أمر بديهي.
وبعيداً عن السامانية، فقد انتبهت إلى أن هذه الكائنات لا تحب مواجهتي وجها لوجه. لهذا فهي تأتي دائما من خلفي. لم أفكر أبداً في أنها تريد مباغتتي من الخلف، أو طعني من الخلف.. ربما لهذا فقط لم تفعل.. لأنني لم أتخيل ذلك منها ولا من غيرها.. حمتني براءتي في كثير من المواقف، بل وحمت غيري معي. مثال لذلك عبد العزيز وسماح.. هل يسمحان لي بأن أحكي عن علاقتي بهما؟..
قبل أن يعلن عبد العزيز عن وجوده، كنت كلما وضعت لمبة جديدة للإضاءة في أي مكان من الشقة، خصوصاً في الحمام والمطبخ والصالة، كانت تنفجر لحظة ما أضغط زر النور.. حتى أنني في النهاية يئست من وضع لمبات جديدة وبقيت الحجرات الثلاثة يصعب دخولها ليلاً لشدة ظلمتها اللهم بإيقاد شمعة.
ثم بدأت تحدث أشياء غالباً في المطبخ. صوت ارتباك ما. أدخل، أجد الأطباق قد وقعت، أو زجاجة زيت انسكبت..أي شيء.. أي تدمير.. أحياناً لا شيء، سوى الشعور كأن هناك حركة في المطبخ.. دائماً كان يحدث ما يدفعني للدخول إلى المطبخ.. كأن شيئاً هناك يريد أن يجرني إلى أرضه.. بلا سبب منطقي أو ترتيب مني، لم أكن أنفعل غاضبة تجاه ما يحدث. بالعكس، كنت أبتسم. وأفكر أن هناك كائناً خجولاً هنا يثير الضجة صحيح، لكنه بالخجل الكافي الذي يجعله يختفي وراء هذه الأفعال ولا يعلن عن وجهه. وبدلاً من أن أشعر بالسخط وأقول "تبا لك" كنت أشعر بحنان وإشفاق أموميين وأقول "لا تخف".
ثم حدث شيء عنيف بالنسبة لي وكأنه اختبار. كنت في أسوأ حالاتي الصحية والبدنية ومع ذلك ذهبت إلى العمل. هناك أخبرت زميلتي في العمل أنني"في أول يوم من الدورة الشهرية وعندي الفلوانزة حادة وأضراسي ولثتي تؤلمانني بعنف" قالت لي" عليك بالعسل الأبيض والليمون" ثم تركت عبء العمل عليّ وقالت إنها مضطرة للذهاب لأسباب شخصية!
في طريق العودة من العمل اشتريت الليمون والعسل بروح باسمة، فخورة بأنني استطعت أن أنهي العمل وحدي في هذه الظروف.. وضعت الليمون على طاولة المطبخ ووضعت برطمان العسل في الثلاجة اتقاءً للنمل. وكنت كلما دخلت المطبخ شعرت أن أحدا هناك..
احتميت بحجرتي المفضلة، الصالون، ونمت على كنبتها رأسي باتجاه الغرب وقدمي باتجاه الشرق.. وبين النوم واليقظة رأيت دخاناً أسود في سماء الصالة يتجمع كالخيوط من كل المسارب حتى يصير غيمة، كان كل خيط يشبه دخان نار شمعة.. قلت لنفسي أخيراً قرر الكائن الخجول الذي سافر إلى بيتي أن يعلن عن وجوده.. هذه خطوة لا بأس بها.. قمت لأتواصل معه لكنه تبدد مجددا من الهواء ما إن وجدني أتحرك.. شعرت ساعتها بمنتهى التعاطف معه، إذ أدركت أن هذا الكائن رهيف لدرجة أن تبدده ذبذبات حركتي المترددة في موجات الهواء. بخفة وحرص على ألا أشرِّد ما تبقى من ذراته ذهبت إلى المطبخ لكي أصنع العسل بالليمون الذي قد يشفيني.. شققت ليمونتين بسكين من المنتصف، ثم فتحت الثلاجة وأمسكت ببرطمان العسل الذي ما إن قبضت عليه إلا وانزلق من يدي مهشماً كأنما هي بودرة زجاج مطحونة في لزوجة العسل الأبيض، على الأرض، قرب الثلاجة. فاضطررت في الحمى والبرد، وآلام اللثة وأسنان وسخونة وألم الدورة الشهرية، أن أمسك بخرقة وأغرقها في الماء لأنظف ما انقلب من العسل..


عرفت أنني أمام كائن يتحداني في صبري وعفوي. كائن يريد أن يثير غضبي لكي يجد مبرراً يقنعه بإيذائي.. عرفت أنه أتى أصلا لإيذائي مرسلاً من قبل إحدى الصديقات اللاتي يغيظهن هدوئي بل وبرودي أحياناً تجاه المواقف المستفزة.. وكنت نائمة على كنبة الصالون. شعرت بهلال أبيض يحتضنني من جزعي. الأرجح أنه كان يحتضن الكنبة التي أنام عليها بحيث يحتضنني ضمناً. كان شعوراً مريحاً وهادئاً. حتى تحول هذا الهلال تدريجياً إلى كائن مكون من النفايات المعدنية. دوائر ومثلثات من الرصاص والصلب بداخلها طلقات غير مفرغة بعد. كائن على هيئة رأس وجسم حصان، وأقدام وذيل تمساح. كائن عملاق مخيف يحيط بي أنا وكنبتي المحببة بينما يتلفت برأسه المعدني يمينا ويساراً بصليل مزعج يدعو للصراخ، وكأنما يريد أن يقول: هذه منطقتي وهي لي، ولا أحد ينازعني عليها..

لم أعتلِ حصاناً من قبل. برغم رغبتي الحثيثة في تعلم ركوب الخيل. هذه المرة كنت وكأنما أكون معه شكلاً يشبه الصليب. أنا الغرب والشرق وهو الشمال والجنوب. في المعتقد الساماني، يعتبر اتجاه الشمال (حيث رأسه) الاتجاه نحو رحلة البحث في العلوم، البحث عبر التجارب المعملية والعملية. أما الجنوب (حيث ذيله) فهو رحلة الساماني للبحث عن جذوره، البحث في الأرض، في منبته ومنشأه، في التربة. في طفولة روحه. في الملموس. بينما الغرب (حيث رأسي) فهو اتجاه رحلة الساماني الفردية. رحلة اكتشاف ذاته والتي لا تكون نتيجتها متشابهة بين ساماني وآخر. بينما يمكن أن تتشابه نتائج الرحلات في الاتجاهات الأخرى.. أما الاتجاه الشرقي (حيث قدمي) فهي رحلة الاستنارة الروحية، رحلة البحث عن النور والنار المعتقد والروح. لم أكن ساعتها أعرف كل هذا بعد.. لكنني كنت متأكدة أن للاتجاهات علامة فيما يحدث لي.

فتحت عيني ببطء فتلاشى الحصان التمساح الرصاصي، لكن دخاناً عاد يتجمع في سماء الصالة. قررت أن أخاطبه وأنا مستلقية على الكنبة ومتخلية تماماً عن كل ما يدل على الحياة من الحركة. أغمضت عيني وبدأن أحاول أن أبث في هذا الدخان كل ما يمكنني من طاقة حتى يصير أكثر تجسيماً، أو على الأقل حتى أفهمه أنني لا أريد أن أستخدم مادتي وحركتها في تشتيته.. وبدلاً من أن يتخذ هذا الدخان شكلاً، وجدته يتجمع في صف ويتحرك مخذولاً باتجاه المطبخ، حيث الركن الشمالي الشرقي الأثير الذي بدأ رحلته إلي منه. وبينما كان يفعل ذلك طلب مني أن أخرج اتقاءً لشره، وأن أفتح عيناً عليه ليخبرني عن بعد بما في داخله.

قبل أن أستجيب لطلبه، جلست إلى مكتبي حيث تكون الكنبة خلفي. اتجهت جنوباً دون أن أدري.. وكتبت:

الشبح

ينبغي أن أدعي الموت
كي يمكنك أن تجمع شتاتك من الهواء
وتقف أمامي
يا مسكين
ألهذا الحد
تخيفك مادتي؟



*****



قطة بيضاء وقطة سوداء

سقطع حكـقطع حكايأقطع حكاية عبد العزيز وسماح مؤقتاً من أجل "حمَد"..
"حمَد" غلام بين الثانية عشر والرابعة عشر، زارني بالأمس في الحلم. ولا أستطيع الآن بعد أن زارني أن أتجاهله، وإلا سأكون جاحدة وناكرة للجميل.. حمد صبي أسمر نحيف بشعر طويل ناعم لكن الصحراء ألهمته بعض الالتفافات..

كنت أنا وزوجي في أحد رحلاتنا المحببة.. كنا في الصحراء، ولا يمكنني أن أميز هل كنا في منطقة سقارة أم الأهرامات أم ميت رهينة "ممفيس"، لكنني أرجح أنها إما سقارة أو ميت رهينة.. كنا نتنزه ببطء شديد نظراً لظرفي الحالي – الحمل. وكنت أمسك بذراعه كمن يمسك بصورته في المرآة، وكان ينصت لي كمن ينصت إلى صوت يأتيه من داخله..

كانت الصحراء أمامنا وخلفنا، لكن خطانا كانت تتبع طريقاً معشوشباً قاسياً لما فيه من تعاريج لكنه أخضر.. بعد فترة من المشي، وجدنا مجموعة من السياح يلتفون حول صبي أسمر بجلباب أبيض ناصع، يحمل ثعباناً ضخماً وطويلاً ويعرضه على المجموعة بينما يعدد لهم صفاته، ويوضع لهم هذه الصفات بالكلام النظري وبالتصرف العملي.. الغريب أن "حمَد" كان يشرح كل هذا باللهجة العربية الخاصة بالبدو غير أن السائحين كانوا يفهمونه وظهر ذلك على تعبيرات وجوههم.. لكنني مع ذلك اضطررت أن أشرح لزوجي ما يقوله حمد وأترجمه له إلى اللغة الانجليزية. كان حمد يشبه أحد "الرفاعية" بين ثعابينه، بل وأقوى أيضاً.. لأه كان يبدو وكأنما وسط أهله. في بيئته الطبيعية.. عندما ذهب السائحون إلى جولة حرة في المكان، ذهب زوجي بعدهم بقليل، وأنا بقيت مع "حمَد". كان يحدثني كأنه يعرفني منذ أمد طويل.وكنت أتابعه بعيني وكأنما أستعيد صورته أكثر مني أستجمعها للمرة الأولي.. قال لي حمد بلهجته البدوية إن هذا بيته ودعاني للدخول، لكني شكرته وأخبرته أنني أفضل أن نقف أمام الباب حتى يتسنى لزوجي أن يرى أين أنا فلا يقلق.. قال حمد:
- أي باب. لبيتي بابان، واحد على الخضرة، وواحد على الصحراء..
- الباب الذي يعرفه زوجي يا "حمد".. (قلت مبتسمة)

ذهب حمد وأحضر كرسيين من الخوص، واحد بظهر لي، وواحد بلا ظهر له. أشعل النار ووضع براد الشاي فوقها على الأرض بيننا. وأضاف عشباً ناشفاً لا أعرفه إلى الأكواب الزجاجية الصغيره. عشب يشبه الروزماري بعض الشيء. صب الشاي وقلبه بالعشب الذي ألقاه ما إن انتهي من التقليب. أعطاني كوبي وأخذ كوبه وبدأ يتحدث بينما أنا أشرب:
- أنا وعيت على الدنيا وجدت نفسي هنا. أعرف أن لي حياة أخري قبل ذلك في مكان منعم أكثر راحه بكثير. وذاكرتي تقول لي أنني تمردت واستنكرت كل ما حولي ولم أقدر النعمة التي كنت فيها لهذا وعيت هذه المرة فوجت نفسي هنا. هذا بيتي كما ترين، علبه من الطوب اللبن لها بابين.. باب على الحقول التي غير مسموح لي أطعم منها وباب على الصحراء التي صارت وطني الآن أهيم فيها كيفما أشاء..
- بيتك جميل يا حمد.. انظر. الناس يأتوك من كل بقاع الأرض..وأغلبهم يفضل الخوض في الصحراء لا في الحقول..
- نعم الصحراء أكثر خطورة، وهذه تجربة يمرون بها ليوم واحد في حياتهم، ويحسدونني عليها ويرحلون لكي يتركوني لها ليل نهار..
- لكنك صرت خبيراً بالصحراء..
- الحمد لله.. وإلا كانت أكلتني الصحراء.. انظري مثلاً...

وأخذ "حمَد" يمسك في كل مرة بحشرة أو نوع من الزواحف الصحراوية أو التي تعيش على حواف الحقول ويشرح لي أين سمها وما نوعية ودرجة خطورتها، وكأنما يلقنني درس السنين.. الدرس الذي كلفه حياته سيهديه لي بينما أشرب عند باب صحرائه شاياً.. قال حمد أيضاً إنه يعرف كل الواحات في الصحراء (يقصد الصحراء الغربية) وأنه يمكنه أي وقت أن يصحبني ويقودني فيها وبينها بدون تحت حراسته فلا تتمكن أي زاحفة سامة أن تؤذيني. كان بقول هذا بينما عاد السائحون من رحلتهم وخلفهم زوجي.. وقفتُ فوضع زوجي يده على كتفي، ينما استأذننا "حمد" ليوجه السائحين إلى الجهة الأخى من البيت حتى يتمكنوا الآن من زيارة الحقول.. يبدو أنه كان ينبغي عليهم أن يتسلقوا سقف بيت حمد حتى يتمكنوا من النظر إلى الحقول.. هذه هي الزيارة. فلا أحد يدخل الحقول.. فقط ينظرون إليها من فوق بيت حمد الذي ليس تسلقه سهلاً..

أثناء ذلك كنت قد ترجمت لزوجي من الحوار الذي حدث بيني وبين حمد، الجزء الذي يقترح فيه مرافقتنا في واحات مصر، أما بقية الحوار فاعتبرته سر حمد الذي اءتمنني عليه فلم أبح به. قلت لزوجي أنني أحب أن يرافقنا حمد في جولات كهذه. فأنصت إليّ..

عاد "حمد" بابتسامة راضية:
- إذاً هل توافقون؟
- نعم، ويكون لنا الشرف يا حمد. لكنني الآن حامل كما ترى، ولا يمكنني التجوال كثيراً، لذا سيكون ذلك إن شاء الله بعد أن أضع حملي..
- طبعا طبعاً" قال "حمد" عابساً وكأنما فقد الأمل.. ثم قال زوجي بابتسامة محبة:
- الآن سآخذ زوجتي لأريها ما رأيت، بعد أن أمَّنت لها الطريق. نراك في العودة.

مشى زوجي ومشيت خلفه بقليل. كان يمشي أمامي ليتفقد قبلي مخاطر الطريق وحتى يزيحها من أمامي.. لزوجي خبرة بالثعابين والحشرات أكثر مني بكثير. لكنها لا تفوق خبرة حمد الذي نقلها لي.. كانت هناك حشرة خضراء تزحف على الأرض وتشبه ثمرة البازلاء. كانت هذه الحشرة خطيرة جداً لأنها ما إن تقع على قدم إلا وتلتصق بها وتبدأ في مص دماء الكائن الحي من خلال شعيراته الدموية. كنت أتفادى هذه الحشرة ببراعة لاعبي سيرك.. أما الثعابين والحيات، يا للعجب، كانوا يقفون على حافتي الطريق المعشوشب الذي نمشيه. يقفون بأجسام مرفوعة حوالي نصفها وينظرون لنا. كان من الصعب تحديد إن كانوا يتربصون بنا، أم يقفون لنا تحية وتعظيماً.. زوجي لم يكن مهتماً بهذا الأمر، فقد كان نظره لا يفارق الأرض، أما أنا فرأيتهم، وحمدت الله على كل حال أنهم لا يهاجموننا، بغض النظر عن سبب وقفتهم هذه.. لكن لا مانع أن اقول هنا أنني فعلا ساعتها شعرت أنني في موكب ملكي، بينما الثعابين والحيات المختلفة ما هي إلا خدم وحراس منها المخلص ومنها الخائن المتربص..

شعرت بتعب من المشيء فقلت لزوجي أنني سأعود لأستريح عند حمد حتى يلحق بي. لم يجب، فعرفت أنه مشغول في اكتشافاته الصحراوية.. عدت أدراجي، وكانت الحشرة الشبيهة بالبازلاء أكثر نشاطاً أثناء العودة مما اضطرني للمشي وكأنني بهلوان حتى أتفاداها. كان من الصعب جدا النظر إلى أي شيء آخر.. وكان ينبغي أن يكون كل التركيز على تفادي هذه الحشرة السامة. بعد فترة، وعندما اقتربت من بيت "حمد" صمعت صوت زوجي يصرخ، نظرت خلفي فوجته يجري، وخلفه رأيت شيئاً أسود لو ذيل منفوش يجري.. لم أعرف ما هذا كل ما خطر ببالي إنه ذئب.. جريت أسع حتى أفسح لزوجي المجال عندما يصل إلي حيث أنا الآ،. هنا، نظر حمد من فوق سقف بيته، ثم ناداني وطلب مني أن اسرع. عندما وصلت عند بيته، أخذ بيدي اليمنى وقدمي اليمنى حتى أصعد إلى سقف بيته. كان الصعود صعباً ببطن كبيرة ووزن أثقل. أخذت فترة أحاول الصعود ولا أستطيع حتى كدت أنهار، لولا إرادة دبت في فجأة جعلتني أتحامل على نفسي وأكمل عملية الصعود، بل وأتدحرج على سطح بيته حتى أفسح مكاناً لزوجي كي يصعد. كان حمد قد قدم يده إلى زوجي بالفعل، زوجي الذي أخذها وصعد بخفة وذعر.. عندما نظرنا تحتنا، كانت هناك قطتان سمينتان بعيون حمراء. قطة بيضاء وقطة وسوداء تتربصان بنا أن نهبط فتنهشانا..

في الحلم، كان هذا هو الرعب كله. لا الحشرات ولا الثعابين.. لكن القطط. كانت هي الوحوش الحقيقية. لا أعرف بماذا كان سينتهي الحلم لولا مساعدة "حمد" لنا في الصعود إلى سقف داره.. لا أعرف بماذا كان سينتهي الحلم لو لم يكن لحمد داراً.. داره الذي استنكر كونها من الطوب اللبن، وكون لها بابين.. لولاها ولولاه لما نوجونا من الملاعين القطط... لأجل هذا المعروف، الذي أنقذت به حبيتنا يا "حمد" أنا وزوجي وأطفالي القادمين، كان ينبغي أن أشكرك علنا وأرد لك الجميل.. قبل أن أعاود متابعة تفاصيل حكاية عبد العزيز وسماح..




مراوغة

كلما بدأت الكتابة عن عبد العزيز وسماح يحدث شيء يمنعني من ذلك. أولا مرضت مرضا شديداً واضطررت لأن أبقى أسبوعين في الفراش. ثم تشاجرت مع أحد أفراد العائلة لدرجة رفعت ضغطي لدرجة يمكنها أن تصيبني بتسمم الحمل. ثم جاءني حمد لينقذني وزوجي من القطط في حلم.. ثم الأمس، جاءني حلم آخر. كان ملونا. كان بالللغة الانجليزية كله. وكان حلما شيقاً جداً. فيه الكثير من الموتي يعودون إلى الأرض وهم يشبهون أنفسهم تماماً عندما كانوا أحياء.. كانوا كثيرين جداً.. جحافل جحافل من الأموات المتوردين ذوي الصحة الجيدة.. وكنت أنا وزوجي منهم. ولم أكن ساعتها في الحلم أعرف أننا جميعا أموات.. لكن يبدو أن زوجي كان يعرف شيئاً ويخفيه. أنا كنت متحمسة جدا للحياة، تماماً مثلما أكون في مطار القاهرة متحمسة جدا لملامسة أرض الوطن بعد رحلة طويلة إلى بلاد غريبة.. كان المكان أشبه لمدينة ملاهي بها مطاعم كثيرة وحمامات وأماكن للتسوق. الألوان والأضواء أخاذة جدا.. لكنني كلما شربت شيئاً و أكلت شيئاً لم أجد له طعماً، لم يملأ فراغ معدتي.. كان يختفي ما إن يلامس فمي.. حدثت أشياء كثيرة في هذا الحلم لا أتذكرها الآن، لكنني أتذكر جيدا البنت والولد اللذين كانا معنا أنا وزوجي. كانا يتقدماننا. وكانا في سن بين السادسة والثامنة. البنت كانت أكثر إقداماً، الولد كان يتبعها تقريبا. البنت بشعر أصفر مجعد وملابس تميل ألوانها للأحمر والأسود، أما الولد فشعره بني ناعم وملابسه تميل إلى البني والأصفر الصحراوي.. لم يقل الولد كلمة واحدة في الحلم.

وبعد أن تجولنا كثيرا في مدينة الملاهي هذه، وكلما طلبت شيئاً حدثت الصدمة ذاتها بأنني لا أجد له طعماً، قال زوجي: - "حواسنا أين ذهبت؟
فأجبته: - " لا أعرف، لكن ينبغي أن نذهب للبحث عنها..
قالت البنت: - " هناك مكان قريب هنا يسكنه من هم مثلنا فقط ربما ينبغي أن نذهب إليه."
ذهبنا حيث وجهتنا البنت. ووجدناه فعلا مكاناً أبيض جيرياً واسعاً ومليء بالعنابر ذات الشبابيك الواسعة. ذهبنا كلنا بكل جحافلنا إلى هناك. كان منا المتخلفون عقلياً، والمذهولون، والمستسلمون، كان منا من كل نوع من البشر، لكن لم يكن منا من الثائرين ولا المتمردين واحدا.. وبينما نحن هناك، وبينما أنا أنظر إلى أشكال الآخرين الذين معنا.. قلت لزوجي: - " هذا مستحيل.. هذا مقرف.. كيف يمكن أن نكون مع هؤلاء البشر..!!!
أجابني: - " هذا هو الحال..
- لكن أيضاً، البشر الآخرون في مدينة الملاهي هذه، لا يشعرون بنا وكأننا لسنا هنا..
- نعم هذا صحيح..
- تقصد أننا؟.. (هنا جاءتني فكرة أننا أموات لكن زوجي لم يجب.. ولم أكن بحاجة لإجابة وكأن اليقين جاءني هكذا فجأة وقبلته.)
قلت وقد فهمت أيضا أنني أنا وزوجي والطفلان أسرة ضمن مجموعات أخرى من الأسر، قلت: أنا لا أحب المكان الذي تلغى فيه حواسي حتى لو كان الكرة الأرضية كلها، ولا أحب المكان الذي يجمعني بهؤلاء البلهاء الراقدين في عنابر بيضاء ينهشهم جيرها.. إذا كنا فعلا أمواتاً فنحن لا ننتمي لهذا المكان بالمرة. ينبغي أن نتحرر من هنا.
وبينما كنت أقول ذلك كنت أجد الطفلة تشاركني الرأي لكن بحماسة أشد وقوة تكاد تشبه القدرة على القتل أو قطع الحبل السري لوليد لا حول له ولا قوة.. كانت أشجع مني بكثير.. كانت تشبح شفرة الموس بينما كنت أنا ماكينة الحلاقة فقط.. وكانت استجابة زوجي رائعة، وكأنه كان ينتظر أن أطلب الخروج من هذا المكان..قال:
-" عظيم.. !
ووجدت نفسي أقول له مبررات للخروج بينما نخرج ويخرج معنا أغلب الجحافل الميتة المتوردة بحيويتها.. وجدت نفسي أقول له:
-" إذا كنا أمواتاً فعلاً، فلماذا نرضى بحياة محدودة في حدود إمكانيات الجسد؟! بل وأيضا لماذا نسجن أنفسنا في موت أجسادها داخل عنابر ليس فيها أي فعل إبداعي يمكن للواحد أن يمارسه؟! إذا كنا فعلا أمواتاً فلماذا لا نستغل هذه الاحتمالات المطروحة أمامنا بموتنا.. علينا أن نستغل طاقة موتنا هذه. ينبغي أن نبدع أكثر ونعود إلى عالمنا المليء بالإمكانيات..

هكذا ما إن كان أحد منا يخرج من بوابة السور الأخضر للعنابر البيضاء إلى ويسحبه شيء لأعلى ثم يتلاشى.. حتى صرنا نبتعد جميعنا عن عدسة كاميرا الحلم. هنا وجدت أننا نجلس كمتفرجين في سينما صيفي مكشوفة أمام شاشة عرض، خلفها رجل مفتول العضلات، ومربوط بحبال من كل مفصل في جسمه بالأجهزة خلف الشاشة. وكان حوله رجال آخرون يهددونة.. كان هذا الرجل ميتاً. ولهذا ربما عرفت أن أتواصل معه.. كان عبد العزيز..وقد عاد.

ورغم كل هذا، أعرف أن هذا الحلم لا يعني شيئاً في ذاته. صحيح كان يحتوي على كثير من المشاهد الممتعة لحظة رؤيتها، والكثير من الألوان والأضواء.. إلا أنني أعرف تماماً أن هذا الحلم مزجوج من عبد لعزيز إلى رأسي، بعد أن حاول بالترهيب أن يمنعني عن كتابة حكايته هو وسماح.. الآن يحاول بالترغيب.. بأن يجعلني كلما بدأت أتوغل في حكايتهما يصيبني النوم وأحلم بشيء جديد وجميل ومثير لدرجة تجعلني أبدأ بحكيه قبل حكي قصتهما.. أعرف أيضاً أن عبد العزيز لا يفعل ذلك عن عنف منه. لكنه خجول جدا.. كما عرفته دائماً، ولا يحب أن يتعرف على خصوصياته أحد.. إنه حكي لي كل شيء لأنه شعر بالطمأنينة نحوي، وبأنني لا أريد منه شيئاً.. الآن وقد صرت أكتب سيرة خيالي النائم والصاحي، لا أستطيع أن أحذف عبد العزيز وسماح هكذا.. هو يعرف جيداً كم أحبهما.. لكنه يحتاج وقتاً ربما لكي يعرف أن قصته السرية هذه، ليس فيها ما يشين أبداً، بالعكس، فيها الكثير من الشجاعة والمروءة التي تجعله بطلاً. وبرغم أنه فعل كل ما فعله بلا رغبة حقيقية في الظهور كبطل، إلا أنه كان كذلك فعلا في استماتته للدفاع عن اختياراته.. وكان ممكن أصلا أن يكفيه بطولة أن يحرر نفسه من العبودية بأن يقرر يوما أن يختار.. حتى لو لم يستطع الدفاع عن اختياراته. عبد العزيز شبح مسئول ويستحق أن يفخر به معي كل من يدخل إلى أحلامي.

التوهان عن عمد

يرتبك المرء أحياناً عندما يكون محاطاً برعاية عائلية شاملة. فداخل نظام "الأوفر كير" over careالاجتماعي الذي تفرضه الأسرة البرجوازية العليا على بناتها، داخل هذا الحرص الشديد المبرر بحب قد يقتل أحياناً شخصية الطفلة المحبوبة زيادة عن اللزوم، تكون هذه الفتاة في صراع دائم بين الفضول الذي يولد الرغبة في استكشاف العالم خارج القفص الذهبي المبطن بالقطيفة الحمراء، وبين الشعور بالذنب تجاه عصيان أوامر الوالدين المحبين جدا، الرقيقين جدا، والذين بالتالي "لا يستحقان" تخييب آمالهم، أو كسر توقعاتهم بالخروج عن المسارات التي حددوها هم مسبقاً للإبنة التي "ينبغي" أن تكون مطيعة ومهذبة ولا "تكسر قلب" والديها الحاني.

منذ الصغر إذاً عرفت أن الحب سلاح قاتل. وأنه مبرر لا يقهر لكثير من الجرائم الشنعاء. ولا أقصد هنا جملاً مثل "أضربك يا بنتي لأني أحبك" ببساطة لأنني لم أتعرض في حياتي لهذا الموقف أبداً من والدي.. لكن أفكر في جمل مثل "خيبتي أملي فيكي، الله يسامحك، إيش حال إما كنت بحبك؟!" هنا تكون كلمة الحب أداة لأبشع الجرائم التربوية وهي التربية من خلال الإشعار بالذنب والعرفان بالجميل.. في سن صغيرة لم أكن أعرف كيف أعبر عن هذه الأشياء.. فقط عرفت أن في الحب شيء مريب ويستحق التوجس.. وأن الإحساس بالذنب عبارة عن غصة فظيعة في القلب خصوصاً عندما تجد نفسك تشعر بالذنب دون أن تكون فعلا مقتنع أنك أخطأت في شيء مما فعلت، مما تعاقب عليه بـخصام ماما لك.. كنت أشعر بالذنب لأنني أغضبها، لكنني لم أكن أشعر بالذنب لما يغضبها مني.. ضميري فقط كان ما استطاعت شبكة الحب أن تصطاده. ومن هنا، حدث شرخ في هذه التربية، إذ أن عرفاني بالجميل الموجود بالفعل، لم يكن مبالغاً لدرجة أن تبقيني للأبد داخل القفص الذهبي.. فقد بقيت أفعل ما يغضبهم. لكن شيئاً فشيئاً توقفت عن الافتخار أمامهم، بما – يا للغرابة – يصعقهم لدرجة أن يلومونني.

بدأت محاولاتي في استكشاف العالم خارج القفص الذهبي مبكراً جداً.. إذ كنت في سن صغير أتهرب بأية حجة من ركوب أتوبيس المدرسة عودة إلى البيت، وبدلاً منه أركب الأتوبيس العام، أو أمشي من جاردن سيتي حيث المدرسة إلى البيت حاملة الحقية الثقيلة على ظهري لكن بعزم وخفة من شعر فجأة أنه لا خوف عليه، وأنه يستطيع الاعتماد على نفسه.. عندما آخذ الطريق مشياً أعود في نفس ميعاد أتوبيس المدرسة، لكنني عندما أركب الأتوبيس العام أعود مبكراً فأضطر للتسكع قليلاً حتى لا ينكشف أمري.. لكنني كنت أريده أن ينكشف حتى أفخر بنفسي أمامهم وأظهر لهم كم كبرت ويمكنني الاعتماد على نفسي، وأنه لا داعي "للقلق الشديد" عليّ. لكن كانت النتيجة "خوفتينا عليكي، كان ممكن يخطفك حد من الأتوبيس، أو تتوهي وانتي ماشية في الشارع!" كان يمكن.. لكنه لم يحدث أبداً. ما حدث فقط أنني كنت أفقد مفتاح البيت كثيرا لا إرادياً.. وكلما زاد اللوم زادت مرات فقدي للمفتاح.. حتى جاء يوم سمح لي فيه بركوب التاكسي وحدي. كنت ذاهبة لتمريني المعتاد في النادي بالمهندسين. وعند العودة، لم يوافق أي سائق تاكسي أن يأخذني معه إلى المنيل. وقفت أنتظر على محطة الأتوبيس، لكن كلما جاء أتوبيس كان شديد الازدحام كأنه كيس لحمة مفرومة.. في النهاية وبعد نصف ساعة من كل ذلك، قررت في لحظة غضب وحماس أنني عندي قدمين وعقل، وبالتالي لا أحتاج لا لتاكسي ولا لأتوبيس. وأخذت أمشي في الطريق الذي اعتاد التاكسي أن يأخذني فيه إلي البيت. كنت أتبع لافتات الطريق، علامات أخرى مثل أسماء المحلات ومكانها مني (عن يميني أم عن يساري)، أشكال بعض البيوت المميزة..الخ.. وصلت البيت بعد ساعتين مشي، وكنت سعيدة جداً وفخورة أنني وصلت البيت دون أحتياج لأن أسأل أحدا عن الطريق، ودون أن أضطر للانتظار مذلة تحت رحمة أي تاكسي.. كنت سعيدة وفخورة لدرجة أكسبتني طاقة جعلتني أستمر في الرقص بعد عودتي للبيت من التمرين مشياً لمدة ساعتين أخريين! عندما أخبرت والدي بما حدث كانت صدمتي كبيرة، كان أبي ساخرا مستهزئاً وأمي ساخطة غاضبة. قال أبي: "لو كان عندك عقل كنت اتصلت بنا وأتينا لنأخذك للبيت، لكن ماذا يمكنك أن تفعلي، جسم عجول وعقل خنافس!.." وقالت أمي: "والله انت ليس عندك أي إحساس بالمسئولية! وتجروئين على أن تخبرينا بما فعلتِ(تقصد بما اقترفتِ من اثم!) ألا تخجلين من نفسك؟! انت إيه؟! ماعندكيش قلب؟! مش عارفة إننا ممكن نقلق عليكي؟! خلاص صرنا في نظرك أمواتاً! لا تقيمين لنا أي خاطر ولا أي حساب!"

قررت أمي بعدها ألا تكلمني لفترة، وأبي صار يعاملني كأنني قطة منزلية مستأنسة أكثر مما يعاملني كإنسان حر مسؤول له عقل واختيارات وقرارات.. لكن هذه اللحظة كانت فاصلة بالنسبة لي. فكثرة اللوم مثل كثرة الضرب، مع الوقت تعتادها ولا تصبح مؤثرة لدرجة شديدة، خصوصاً أن من يلومك بشدة هكذا يفترض فيك عدم الإحساس، بما أنه يزيد من جرعة لومك كل مرة..في تلك اللحظة كنت أفكر: "ألم يخطر ببالهما أنهما أيضا يخيبان أملي أحياناً ومع ذلك أتغاضى عن أفق توقعاتي تجاههما بينما هما لا يتنازلان عن ذلك ابداً؟ لم يخطر ببالهما أنني كان يمكنني أن أفخر بنفسي بعيدا عنهما، ولا أترك لهما بذلك مجالاً لمشاركتي حياتي بتفاصيلها اللطيفة الصغيرة المختلفة عن الراكد اليومي الممل؟! ثم لماذا هذا التسفيه من أفعالي؟ وهذا اللوم العنيف؟ لماذا؟

لم أكن ساعتها أستطيع أن أعبر عن هذه الأشياء بكلام مثل: "من أسس التربية السليمة أن تترك لطفلك مساحة من التعبير عن ذاته والفخر بها لأن ذلك يساعد على ازدياد ثقته بنفسه وبهذا يساعده أن يكون أكثر اجتماعية وتفاعلاً مع البيئة المحيطة، وأن أي تسفيه أو زجر في غير محلهما قد يربكاه ويشعراه بالخزي مما قد يكسر ذاته قبل حتى أن تتكون كاملة"..وبرغم ذلك كنت أعرف أن ما يفعلاه يسيء لي وأنني يجب أن أقاومه واستمر على العكس في استكشافاتي بعيدا عنهم. قد يكون ذلك لأن دفة "الشعور بالذنب" القوية لم يكن يوازيها من الجهة الأخرى لغلاف دستورهم العائلي، دفة"عرفان بالجميل" بنفس القوة، ربما لهذا لم يستطيعا أن يغلقا على زهرة صباي الدفتين..

منذ ذلك الحين بدأت أتعمد التوهان. صارت هواية لي. أن أركب أي أتوبيس لا أعرف يذهب إلى أين، وأن أنزل في أي محطة منه، وأتجول بالمكان متأملة المباني والناس والمقاهي واللافتات لفترة تسمح لي بتصفية ذهني واكتساب بعض الذكريات البصرية إلى أن أتعب وأبدأ أسأل "لو سمحت، كيف أذهب إلى المنيل؟" كانت بدأت تتكون بداخلي طبقة حزن غريبة وغير مفهومة.. وكنت بدأت أدخل أكثر في فكرة "إنك ميت وإنهم ميتون"، أي أنه لا شيء في الحياة يستحق الحنق أو المنافسة أو الصراع من أجله.. كنت قد بدأت أتعلم معني الصمت، ومعنى أن أتكلم فقط عندما يكون هناك ضرورة لذلك، وألا أبدأ أبداً أي حديث كان.. لم أكن أشعر أنني في محنة. كنت أشعر على العكس، أنني ينبغي أن اساعد الآخرين.. الحقيقة التي كانت غائبة عني هي أنني كنت أستنجد بلا وعي مني، بالآخرين، أرتمي في حيواتهم بتفاصيلها لألهو بعيدا عن حياتي قليلاً.. ذات مرة مثلاً في إحدى توهاناتي المتعمدة، ساعدت أما في شراء شبكة ابنتها، تلك البنت التي كانت سعيدة جدا، وكنت أنصحها كأنني خبيرة في شراء الذهب، بل وأنني دخلت بيتهم معهم بعدها وشربت معهم شربات شراء الشبكة.. أمور كهذه كانت تحييني من جديد.. أن يثق فيك أحد لا يعرفك بالمرة، أن يسألك عن رايك ويستشيرك في أموره الخاصة.. هذه الثقة التي تغزي ثقتك في أنك تفعل الصواب، برغم استخفاف وتشكك أبيك، وقلق وتوبيخ أمك لو أنك قلت الحقيقة، أو هذا الصمت المرتاب المحمل بخيبة أمل من كليهما تجاهك، لو أنك قررت فجأة أن تكذب لتتكتم حياتك الخاصة بعيداًُ عن هذا الشرَك.




قطة الشارع السوداء

من التوهان عن عمد، تأتي صحوة. أن تقرر فجأة مثلاً أنه ليس عليك أن تعاقب نفسك بأن تجعل شكل استكشافاتك للعالم الخارجي علي هيئة أنك تضيع فيه.. وكأنك تتصنع لنفسك مبررا للخروج إليه.. لماذا كل هذا العناء؟ المسألة ليست إلا مسألة قرار. اي مسئولية اتخاذه ومسئولية تبعاته. كانت رغبه المحمومة في البقاء في المنزل، مع عدم اطمئنانه الكامل لوجودي المجسم هناك والذي قد يبدد كثافته ورهافة مادته في اي لحظة غضب مني، كان لذلك ولغيره من الأسباب ما جعلني أبدأ في اتخاذ قرارات مثل المبيت في الشارع مثلا.. وما المشكلة؟ ماذا سيحدث لي؟ أريد أن أختبر الكلام الذي يقال عن خطر تواجد الفتيات في الشارع ليلاً. أنا قطة شارع سوداء هذه الليلة. سأقنع نفسي بهذه المسألة وسنرى إن كان أحداً سيكتشفني في الليل، مموهة بلونه.. وإن اكتشفني، فهل يفعل شيئاً لقطة شارع؟ بالفعل، عندما كنت أتخيل نفسي قطة شارع سوداء كانت هي المرات التي لا أتعرض فيها لأي أذى من شرطي أو شباب سكرانين الخ الخ.. لدرجة أنني بدأت أصدق أنني من شدة ما اقتنعت بأني قطة شارع سوداء، لم يرني الآخرون إلا هكذا، ولم أعد مطمعاً لأي عابر يمر في الثالثة صباحاً سكراناً قرب مجمع التحرير.. ولا قضية مضمونة لشرطي يريد أن يثبت جدارته..

عندما طلب مني عبد العزيز أن أخرج من البيت وأن أفتح باباً من عقلي عليه حتى يمكننا أن نتواصل عن بعد، كنت بالفعل قد اختبرت مسبقاً مسألة القطة هذه، لهذا كان من السهل علي أن أبقى خارج البيت لأي مدة يريد هو أن يحدثني فيها أو أن يظهر لي.. وقد كنت بالفعل صرت خبيرة في أماكن وأسعار المقاهي التي تفتح أربع وعشرين ساعة.. لذلك لم يكن من الصعوبة علي تنفيذ طلبه.

لم يكن عبد العزيز قد تشكل على هيئة آدمي بعد، بل وأنه في هذه المرحلة لم يكن قد تخلص بعد من صفته الدخانية التي كانت تحاول أن تتشكل في هيئة مزيج بين الحصان والتمساح العملاق من الحديد والرصاص.. في هذه الرحلة الليلية، عرفت فعلا معني أن افتح عيني على مكان لست فيه. فقد كنت في الشارع، وكنت في الوقت ذاته أري البيت بدقة شديدة، واعرف أين عبد العزيز الآن من البيت وماذا يفعل، وكيف يتحرك ولماذا.. كل شيء كان واضحاً جدا. في هذه الليلة أخبرني عبد العزيز ومثل أمامي صورة كاملة لشكل حياته اليومي. ماذا يفعل بالتحديد. وقد ولد في أحد البلدان من الجهة الأخرى للبحر المتوسط، وتم التقاطه صغيراً من الشوارع لكي يصبح ضمن خدم أحد الملوك. ثم حدثت أشياء مروعة (لم يحكي لي ساعتها ما حدث) ووجد عبد العزيز نفسه تائها في بلاد لا يعرفها. لكنه لا يعرف سوى أن يكون خادماً. لهذا صار يخدم أول مخلوق رآه.. وتدريجياً صار يخدم مقابل الاستقرار داخل بيت المخدوم فحسب لأنه غير معتاد على الحياة خارج البيوت، يراها مرعبة وتكاد تسحقه من شده الفزع.

أخبرني أيضاً أنه لم يأت إلى بيتي من تلقاء نفسه، بل إنه مرسل من إحداهن ليضر بي. لكنه لم يجد مني أي سوء، وقد حاول استفزازي كثيراً، بل وفي لحظات ضعفي أيضاً. قال إنه كان يحاول أن يجد مبررا لإيذائي، لأنه في الأساس لا يحب الإيذاء، لكنه أُخِذ عليه عهد منذ كان صغيراً أن يخدم سيده الذي يأويه. ولآنه لا يعرفني جيدا حتى الآن، طلب مني أن أخرج بعيدا حتى يحدثني دون أي احتمال أن أسيء إليه عن هذا البعد، لأنه ببساطة يشعر أنه لا يريد أن يجد مبررا لإيذائي.. لكنه في صراع ولا يعرف ماذا يفعل.. والحل الوحيد لكي يتخلص من وعده بإذائي لسيدته التي دفعت به إلي، هو أن يستقر في بيتي، وبهذا يخدمني، ويبقى لم يفرط في عهده أن يخدم سيده الذي يأويه.

شعرت براحة شديدة عندما تحدث إلى عبد العزيز.. كنت أريد أن أحتضنه، لكنه لم يكن شيئاً ملموساً.. ابتسمت وأوصلت له شعوري بالراحة هذا.. هو أيضا كان يشعر بالراحة بعد أن حدثني.. أخبرته أنه يمكنه أن يبقى عندي ضيفا مكروما حتى يقرر ماذا يفعل.. وأنني لن أغضب إذا قرر إيذائي.. لأن مجرد أن يقرر شيئاً، فهذا يعني أنه يمكنه الاختيار. والعبد لا يختار. فإذا استطاع أن يختار ويقرر، فإنه يصبح حراً، وبهذا لا يحتاج إلى أن يخدم أحداً لمجرد أنه يبيت لديه، بل قد يخدمه لأنه "يريد" ذلك.. والإرادة هي ما يفرق بين العبد والحر.. العبد تابع لإرادة سيده، أما الحر فله إرادته الخاصة..



استمرت خروجاتي الليلية، حتى انتهي عبد العزيز من إخباري بكل ما يريد أن يخبرني به. لم أفرض عليه أي اعترافات. ولم أحاول التحقق من أي شيء يقوله. أخبرته أنني أثق فيه ثقة تامة، لهذا لا أحتاج إلى أن أستجوبه.. وفي كل رحلة لقطة الشاعر السوداء، كان عبد العزيز يزيد شيئاً من حكايته إلى ذاكرتي. وكنا نتحدث كثيراً إلى بعضنا البعض، بل وبدأنا نتحدث في البيت أيضاً أحياناً عن تفاصيل نهارية تكون قد حدثت لأي منا.. وكنت أراه بدأ يخرج نهائيا من حالته الدخانية وبدأت تزداد رغبته في التجسد. ليس التجسد المعدني كما كان يفعل عندما يحول نفسه إلى تمساح/حصان عملاق ليخيفني منه كنوع من توخي الحذر تجاه أي شر محتمل قد يصدر عني.. صار مكانه المفضل في الشقة هو الصالون، أبعد مكان عن المطبخ الذي كان يختبئ فيه في البداية.. الصالون، حيث أنام وأكتب.. وفي الصالون صارت الكنبة التي أنام عليها مكان جلوسه المفضل.. صارت بيننا ألفة الأصدقاء وكان عبد العزيز فرحاً لدرجة ملأت المكان بهجة. وكنت سعيدة من أجله بحق..
في هذه الفترة كان عبد العزيز يجاهد لأن يصبح كتكوتاً له ريش أصفر فاقع. ينجح أحياناً ويفشل أحياناً.. لكنه كان فرحاً بالمحاولة، وكان مثابراً جداً ولا يحدوه اليأس أبداً.. كان أيضاً طوال الوقت يريد أن يخدمني. وهذا ما كنت أنهره عليه. وكان سبب خلافاتنا وضيقنا من بعضنا البعض أحياناً. مثال:
أعود من العمل مرهقة ومتضايقة من فلانة أو فلان لأنه فعل كذا أو كذا، أو كلمني بطريقة غير لطيفة الخ.. فينبري عبد العزيز مستبقا الكلام:
- أنا أنتقم لك
- لكنني لا أريد ذلك، لو كنت أريد أن أنتقم لكنت فعلت ذلك بنفسي
- أنت بريئة جدا وربما لا تعرفين كيف تفعلين ذلك، أنا عندي قدراتي وإمكانياتي، يمكنني أن آخذ لك حقك من أي مخلوق في العالم، دعيني أحرسك وأحميك فأنت فضلك علي كثير
- اسمع! أنا لا أريد شيئاً من أحد! أستطيع تدبر حياتي وحدي. كنت كذلك قبل أن أراك وسأظل كذلك للأبد..
- دعيني أخدمك.. أريد أن أكون خادمك.. فأنت طيبة ولا تعاقبين.
- لكنني لا أريد خدماً ولا عبيداً! أنا حرة بنفسي ولا أستطيع أن أتخيل نفسي الحرة تقبل أن تستعبد غيرها من النفوس! لو جعلتك عبدا لي سأسقط من نظر نفسي وقد أجد أنها تستحق القتل!
- حسناً، اطلبي مني أي طلب، كأصدقاء، اطلبي مني أي شيء تريديه.
- إذا كنت فعلا صديقي، فاخبرني عن اسمك، عن جنسك، عن نوعك.. فضولي الوحيد تجاهك هو أن أعرفك، وأن أعرف ماذا يمكنني أن أفعل لك لكي أساعدك تتخلص من عبوديتك وتكون حراً، لكن أن أطلب منك شيئاً فهذا محال. أولا، كما قلت لك لا أريد خدما، ثانياًـ لو بدأت أعتاد أن أطلب منك أشياء سأكون بدأت أعتاد على الاعتماد عليك في تنفيذ أغراضي في الحياة. وهذا سيفقدني تدريجياً قدرتي على تنفيذها بنفسي، وسيجعلني عبدة لك لأنك تنفذ لي ما لا أستطيع أن أفعله بنفسي.. سأتكل عليك، كما يتكل العبد على سيده في الطعام. فهل ترضى لي العبودية وأنا حرة؟ اسمع، أو اسمعي.. فأنا لا اعرف لك اسما أو جنسا بعد، عليك أن تفهم إنني لو استعبدتك سيستعبدني استعبادي لك.. هل تفهمني؟ وأنا لا أرضي لنفسي ذلك. اسمع. أنت هنا بكامل اختيارك. ولم ولن أجبرك على شيء. ولن أطلب منك شيء. أليس لك هدف في الحياة؟ شيء يخصك أنت ولا يخص مخدوميك؟ اعتبرها فرصة لأن تفكر في نفسك. لأن تتخذ قراراتك..

كنت أخرج من هذه المناقشات مع عبد العزيز منهكة تماماً..وكان هو أيضا يبدو وكأنه يشعر بخيبة أمل.. بدأ هو ينزوي بعيداً في ركن المطبخ، يفكر ويتدبر أموره.. وأنا بقيت أذهب إلى العمل، وأعود إلى البيت فأجده منشغلا، أو بائساً لا يريد أن يحدثني.. أنا أيضا كنت أخشى أن نفتح حوارا ينهكني .. فكنت أقتصر على السلام، وأعد طعامي وأذهب للصالون حيث أنام أو أكتب أو أجلس في الشرفة.. كانت فترة صمت بيننا، يحتاجها كل منا.

بعد فترة، جاء عبد العزيز وطرق باب الصالون. قال :
- أعرف ماذا أريد. لقد اتخذتُ قرارا.
- رائع، ما هو؟
- قررت أن أبقى معك إلى الأبد.
- لكن هذا لا يمكن أن يكون قراراً فردياً هكذا. إذا كنت قررت أن تبقى معي، أو تريد أن تقرر ذلك فينبغي أن تسألني بأعتباري طرفا في الموضوع! أليس كذلك؟
- لماذا تكرهيني؟
- أنا لا أكرهك. لكنني منذ أكثر من ثلاث سنوات الآن أعيش وحدي، وقد تعودت على هذا، ولم أعد أتحمل فكرة أن يعيش معي أحد للأبد.. أنت ضيفي، إلى أن تجد ما تريد. لكن قرار كهذا فيه الكثير من الاتكالية والكسل، وبما أني طرف فيه يمكنني ألا أوافق عليه.
- لن تشعري بوجودي، سأكون في منتهى الهدوء والدعة. أقسم لك لن أشعرك بوجودي..
- هل تظن أن بيتي مقبرة؟
- ماذا؟
- اسمع! أن تقبع في مكان واحد وفي هدوء تام، يعني أنك ميت في مقبرة. وأنا بيتي ليس مقبرة. لماذا لا تخرج للشارع، للناس، للهواء، للشجر.. لماذا لا تريد أن تعيش؟
- لا! الشارع صاعقة. والناس متعطشين للدماء والهواء كله أشلاء والشجر مقطوع بأدي السفاحين!
- أنت تضحكني يا..، لا أعرف ماذا أسميك.. أنت تضحكني فعلاً.. هذا ليس صحيح بالمرة. تعالى معي وأنت ترى بنفسك..
- لا، هذا خطر، ينبغي ألا تخرجي أنت أيضا. الشارع خطر.. ابقى معي في البيت هنا أمان.
- اسمع، أنا تأخرت وينبغي أن أذهب للعمل الآن!
- انتظري! لا! الخروج للشارع خطر. ابقى! سأوفر لك الطعام وكل شيء، ولن تحتاجي للعمل، ابقى هنا أمان أكثر. الشارع خطر!
- ما الذي يفزعك هكذا في الشارع؟ أليس هذا هو ذاته الشارع الذي طلبت مني أن أذهب إليه حتى يمكنك أن تحدثني؟ هل كنت تريد لي أن أقع في خطر إذا؟
- لا، كنت خائف منك. لكني الآن خائف عليك. ينبغي أن تسمعي كلامي.
- أولا، لا، لا ينبغي أن أسمع كلامك ولا أن أسمع كلام أي أحد غيري. ثانياً أنا ذاهبة للعمل ولا أريدك أن توفر لي شيء ولم أطلب منك ذلك ولن أقبله حتى لو كان طعام الجنة. ثالثاً سأخرج وأعود متى أحب، هذا ما أنا عليه وسأظل عليه بك أو بدونك.. رابعاً، إذا كنت تريد أن تتعفن في البيت، فاختر مكاناً آخر، لأن بيتي ليس مقبرة.





مناورات بين وحشين تنتهي بسلام

بدأت المسألة بأنني لم أكن أجد النوم بسهولة. كلما رغبت في النوم، وجدت أشياء أخرى تشغلني، كتابة، فيلم حلو، كتاب شيق.. فجأة أصبح العالم كله جميلا لدرجة تدعو للتعجب.. لكنني لم أحاول أن أربط بين الأشياء..
بدأت أيضاً بالتالي أستيقظ متأخرة، واضطر دوما للذهال للعمل بتاكسي لكي ألحق به في الوقت المطلوب، مما أثر على طبيعة نفقاتي وجعلني أقتصد كثيراً في الأكل والخروج لمقابلة الأصدقاء أو الذهاب لسينما وما إلى ذلك.. مما جعلني أكثر مكوثاً في البيت..
تدريجياً تعودت على البقاء متيقظة حتى الفجر أحياناً.. بدون أن يساعدني في ذلك أي أداة جذب أو تشويق مما سبق.. وصرت أحس بإحباط شديد لأنني لا أستطيع أن أستيقظ في الميعاد المطلوب للذهاب للعمل عن طريق الأتوبيس، مما يوفر لي ما يكفي من المال للاستمتاع بحياتي خارج البيت.. هذا الإحباط كان نابعاً من شعوري أني لا أستطيع أن أتحكم في حياتي لأنني ببساطة لا أستطيع أن أواظب على النظام الميقاتي الذي وضعته لنفسي. عندما ترتبك الساعة البيولوجية الطبيعية للإنسان، فكيف يمكنه أن يتبع النظام الكوني. كيف يقيس المسافة والزمن؟ كيف يتعرف على السياق الذي فيه تتبلور أحداث حياته؟.. قد يبدو هذا الكلام فارغاً، لأن هناك الكثيرين الذين يستطيعون أن يعيشوا فيما قد يسمى "فوضى".. لكن حتى هذه أنا لا أراها فوضى، إنهم لهم نظامهم الخاص الذي يتوافق مع متطلباتهم.. أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك. لقد عودت نفسي طوال حياتي أن يكون لي "برنامج" أقوم به. أستيقظ في ساعة معينة وأنام في ساعة معينة وبينهما جدول منظم من الأحداث يتفق مع متطلبات اليوم، حتى "الصياعة" كان لها جدول.. وبسبب هذا الجدول، كان الناس في الأوساط الثقافية يشعرون أنني دائما موجودة بينهم، ويتعجبون متى أقوم بهذه الكتابة الغزيرة.. المسألة تتلخص في الجدول الزمني.
بإصراره على أن يحدثني بينما أنا خارج البيت ليلاً، بدأ عبد العزيز بضرب ساعتي البيولوجية التي يعتمد عليها جدولي الزمني، الذي عليه يعتمد كل شيء في حياتي. كان ماكراً ربما.. لكنه كان يبدو صادقاً جداً في خوفه من مادتي. لكن رفضي لرغبته المحمومة أن أبقى معه في البيت يبدو أنه حرك شيئاً عنيداً فيه.. جعله يقلب حياتي هكذا رأساً على عقب. حتى قلت مناعتي بسبب إحباطي وصرت مستسلمة لأي مرض فأصبت ببرد حاد اضطرني في النهاية إلى التغيب عن العمل لأسبوعين والبقاء - كما أراد هو – معه في البيت..
كنت أشعر أن لعبد العزيز دخل في كل ما يحدث لي، وكأنه عنكبوتا ينسج فخاً لذبابة، ولكي يجذبها يقول لها "هذا بيت" وليس فخاً.. لكنني مع ذلك كنت أحاول أن أقنع نفسي بغير ذلك. كانت فكرة أن شبح ما يتحكم في حياتي تبدو لي جنونية برغم شعوري بصدقها.. لم أكن أستطع أن أتحدث عنها مع أحد.. كنت ببساطة أخجل من نفسي كيف أنا كبيرة وناضجة وأترك لأي ما يكون أن يتحكم في حياتي هكذا.. لم أكن أعرف كيف تمكن من ذلك.. وكلما فكرت أكثر كلما أنهكت أكثر، ووقعت في فخ الإحباط أمام خزلان إرادتي لي والاستسلام للمرض أكثر.. لقد فتحت باباً من عقلي على عبد العزيز لكي أنصت له وأراه عندما أكون خارج بيت، والآن لا أعرف إن كان هذا الباب مازال مفتوحاً. حرارتي ترتفع من أثر المرض. وجسمي همدان جداً.. هذه مادتي التي يخاف منها عبد العزيز تتدهور بمنتهى البساطة. ولو كان ذلك الباب مازال مفتوحاً سيتمكن أن يرى منه كل ما في عقلي بينما أن سخنة أخرف ولا أستطيع حتى أن أعمل لنفسي كوب ليمونادة.!
ما لم يكن يعرفه عبد العزيز، هو أن عقلي يعمل بحدة عندما أصاب بالبرد. هناك لحظة ثمة لحظة بينما تعلو دجة حرارة الإنسان لدرجة الهلوسة، هناك لحظة يمكنه أن يعي فيها بماذا يهلوس بالتحديد. هذه هي اللحظة التي يكون فيها ذهني ثاقب وعقلي منتبه لأبعد حدود. في هذه اللحظة (وهي لحظة زمنياً فعلا) لا تخرج فيها الأفكار على هيئة كلمات.. تخرج على هيئة كتل لونية في كل كتلة فكرة طويلة مفصلة، ومتصلة بأخرى ذات لون وكثافة وشفافية مختلفة.. هنا، لا يمكن لعبد العزيز أن يعي ما أفكر فيه، حيث التفكير خام مازال لم يتبلور في كلمات يمكن لذهنينا أن يتبادلاها. تأتي الفكرة خام ككرة سلة تدهم جمجمة الواحد فجأة. ولا أعرف كيف، في لحظة، يكون قد استوعب كل تفاصيلها.. هذا ما لم يكن يعرفه عبد العزيز..
عندما داهمتني هذه اللحظة وأنا أثناء الحمي، فهمت أشياء كثيرة. وعندما استيقظت غارقة في عرقي داخل البطانية واللحاف، كان ذهني كبرنامج كمبيوتر تم تحديثه. أغمضت عيني وبدأت أول خطوة: التركيز.
وكان تركيزي أساساً على أهمال عبد العزيز، تجاهل وجوده. اعتباره "غير موجود."، ثانياً، كان تركيزي على استعادة هواء البيت. (لم أكن أفكر أن عبد العزيز مستعمر وأن هذا هو هوائي الإقليمي!) كنت أركز على إعادة بصمتي إلى الهواء. أولا ملء الهواء ببصمتي مجدداً، وكأنك تملأ الهواء برطوبة ما تخصك، ثانياً إفراغ حرية عبد العزيز في التجول في الهواء الخاص ببيتي بدون علم كل بصمة لي في هذا الهواء.
عندما انتهيت من هذه الخطوة، أخذتها معي وبدأت أراكم عليها. بألا أنساها مقابل الذهاب إلى ما بعدها. فبتركيز كنت أحث توازني على أن يعمل بحيث يمكنني أن أقف برغم الدوار. وأن أقطع الهواء بهدوء اليوجا من الصالون إلى الصالة إلى المطبخ حيث اتخذ عبد العزيز لنفسه منزلا، وبدون كلام معه، أصنع لنفسي كوب نعناع بالليمون، وأفكر في الشفاء بالإرادة. أو لنقل، أجعل الشفاء هدفاً يشبه الطُعم لكي أصطاد به إرادتي مجددا.. وعندما أتمكن من إرادتي وأجدها قد تمرنت كفاية عبر اختبار شفائي، يمكنني أن استخدمها في أي شيء بعدها.
أثناء الحمى تذكرت أمي وأبي وطريقة العقاب والثواب لديهما. اللوم والحب. الشعور بالذنب والعرفان بالجميل.. وفهمت أن ما حدث هو أن عبد العزيز حاول أن يدخل إلى عن طريق حيلة العرفان بالجميل، التملق.. الخ.. واستطاع في النهاية أن يشعرني بالذنب، وتجاه من؟ تجاه نفسي.. وبذلك جعلت من نفسي المجني عليه والجلاد في آن واحد.. تماماً مثل مرض السرطان.. خلية تنقسم على نفسها وتحارب نفسها. هكذا كنت منقسمة على نفسي وبدأت أحاربها. عاقبتها بالإحباط، وحاربتها باليأس الذي يقلل من مناعة الجسم.. إذاً، لو نظرت للمسألة بتمعن، سأجد أن عبد العزيز لم يفعل شيئاً، وأنني أنا من فعل كل شيء لنفسي وضدها.. بالتالي، أولا، ليس هناك سبباً لأن أغضب من عبد العزيز - خصوصاً أنني أعرف أن الغضب عدوي - فهو ببساطة لم يفعل شيئاً.. وما أحتاج إليه هو أن أتخلص من الشعور بالذنب تجاه نفسي. وهذا أمر يمكنه أن يحدث لو أنني تخلصت مما جعلني أشعر بالذنب.. هكذا قررت أن أتخلص من كل ما يؤثر على ساعتي البيولوجية بالسلب.
وبينما أنا أفعل ذلك كان عبد العزيز يتقلص في ركن المطبخ خائفاً. يراني أستجمع إرادتي شيئاً فشيئاً ولا أعيره أي اهتمام، اللهم أحياناً أبتسم له في حنان يتجاوز المرض ويبدو اقرب للشفاء.
أحضرت بطارية للمنبه. استيقاظ في الخامسة والنصف صباحاً. السادسة إفطار. السادسة والنصف خروج للمشي حول النيل وشراء الجرائد. السابعة والربع، عودة واستحمام ونسكافيه في البلكونة مع الجريدة. الثامنة خروج للعمل.

بعد فترة من الاستمساك بالنظام الخاص بي، فترة استطعت فيها أن أستعيد حريتي المالية عبر الاستيقاظ المبكر، وأستعيد ذهني للكتابة، واستعيد بصراحة ثقتي في إرادتي قبل كل شيء، وأن أمسك بزمامها بنفسي.. بعد فترة من كل هذا، وكأن عبد العزيز كان يريد أن يتأكد أنني لم أكن أفعل كل هذا "حلاوة روح" لكن بجد ومثابرة، وقف عند باب الصالون المغلق، يستأذن في الدخول. أذنت له. قال:
- أنا آسف. حنق العبد على الحر ليس هناك ما يساويه..
- وهل هنا عبد؟ (أجبته بابتسامة)
وضع عبد العزيز نفسه على كنبة نومي، وأخذ يشكل نفسه على هيئة كتكوت أصفر له ريش وأخذ ينظف ريشه:
- هل أعجبك هكذا؟
- يعجبني أنك تحاول وتثابر للتجسد. أنا متأكدة أنك تبذل طاقة كبيرة من أجل هذا.. المهم أن يكون هذا هو فعلا ما تريد أن تفعله..
- أريد أن يكون لي اسم.
- حسناً، أنت الآن كتكوت أصفر له ريش! (قلت ضاحكة، ثم اردفت بجد) وهذا أفضل بكثير من دخان في الهواء، هل تتذكر؟
- عندك حق..
- حسناً سأذهب الآن. (قلت بعد أن وضعت حقيبتي على كتفي مستعدة للخروج.)
- لكن اليوم أجازتك من العمل، ابقى معي..
- (مبتسمة وبخفة) نعم اليوم أجازة وعندي مواعيد مع بعض الأصدقاء.. لو أردت تعالى معي..
- لا!
- حسنا، سأبقى بابا من ذهني مفتوحا عليك ربما تغير رايك.. أنا شخصيا لا أعرف لماذا تحب البقاء في البيت إلى هذا الحد.. هذا ممل جدا بصراحة.. سلام، لا تنسى لو غيرت رأيك، باب ذهني مفتوح..
- لا سآتي معك، لا تتركيني وحدي.. فقط خبئيني.. في أي شيئ.. في ملابسك، في حقيبتك.. فقط خبئيني.




الخروج للشارع

كانت أول مرة يخرج فيها عبد العزيز إلى الشارع مضحكة وعجيبة. فلو قدرنا كم الرعب والفزع الذي كان يعتريه كلما اشتد زحام، أو علت آلات تنبيه السيارات، لملأنا به بحوراً.. عبد العزيز يخاف المادة. وأنا كنت أخرج للعب اليوجا. اليوجا تهتم بالعمود الفقري والجهاز التنفسي والدورة الدموية.. اليوجا تجعل العقل مسلط على جزء من البدن بغرض ترويضه على المرونة والتحكم فيه وفي حركاته بإرادة قوية. كان عبد العزيز مبهوراً باليوجا. لدرجة أنه مرة قال لي إنه كان يتمنى أن يكون له جسد يستطيع أن يلعب به في الهواء هكذا.. لكن كان يفزعه ازدحام المقاهي، فوضى المرور.. الصدام والصراخ.. كان يرتعب من شيئين: شرور الناس، وهمجيتهم. لكنه أحب الشجر والعصافير. مرة أخذته حديقة الحيوان، كان كالطفل المنبهر المرعوب الذي لا يعرف كيف يعبر عن كم النشوة التي تجتاحه. حتى أنه استطاع أن يحول نفسه من شكل كتكوت أصفر له ريش إلى شكل ست سبائك ذهب ثلاثة منها على ظهر كل كتف من كتفيّ، وهذا يعني أنه استطاع أن يخرج، مع الوقت والتعود على الشارع، من الرعب والرغبة في الاختباء داخل حقيبتي، إلى الرغبة في الإعلان عن نفسه ملتصقاً بكتفي، لأن التصاقه بي كان يطمئنه..
ذات يوم قررت أن أخرج بعبد العزيز كقطة شارع سوداء، طوال الليل.. بقي عبدالعزيز ملتصقاً بكتفي على هئية السبائك الذهبية. وكنت أجلس في أحد المقاهي التي تفتح 24 ساعة.. في الثالثة صباحاً شعرت فجأة بالملل. كل الوجوه حولييي متكرره، كل التعبيرات والابتسامات.. كل الرواد أعرفهم.. أغلبهم فنانين مسرحيين وشعراء ومدعين سياسة ومتسلقين وأفاقين.. كلهم يلعبون الطاولة والاستيميشن وتدور أحداقهم على أي سيدة تمر.. كلهم بأصوات مصطنعة يختلقون لأنفسهم شخصيات مكشوفة وعبيطة ولامبرر لها بالنسبة لي.. الوحيد الصادق إلى حد ما وسط هذا الجمع كله، هو النادل الذي يعرفهم كلهم، ويحتملهم.. وينتظر منهم حق "المشاريب".
فجأة قمت. حقيبتي على ظهري، وعبد العزيز بين كتفي: "سلام بقى يا جماعة".. هكذا قررت بدون مقدمات لأحد. تعجب الجميع وظنوا أنني على موعد متأخر مع أحد.. فلم تجد عقولهم أبعد من ذلك للتفكير فيه.. وبينما أنا في الشارع، أخذت السماء تمطر رزازاً قليلاً ورقيقاً.. بدت الشوارع مبتلة ورطبة وحنونة بدون مبرر.. وبين ندرة المارة والرزاز البارد، كانت حميمية وألفة تجمعني بذكرياتي في الأسكندرية.. قبل معرفتي بعبد العزيز بسنوات. كان لي حبيب هناك.. لم تكن ذكرياتي في الأسكندرية سعيدة. كانت كثيفة.. ولم أكن أحن إلى ذكرياتي.. كنت أحاول أن أتلافاها قدر المستطاع.. لكنني في تلك الليلة وجدت الشجاعة لأن أقول لنفسي إنه ينبغي أن أفصل بين الأسكندرية كمدينة وبين ذكرياتي فيها باعتبارها حوادث فردية.. قررت أن أختبر شجاعتي ومصالحتي للمدينة بعد أن خاصمتها سنوات لأنها لم تسعفني وأنا أعاني.
هكذا، ببطء وتحفز، أخذت أمشي من ميدان طلعت حرب في وسط البلد بالقاهرة إلى ميدان رمسيس حيث محطة القطار الرئيسية وحيث ميكروباصات وبيجوهات الاسكندرية. بينما أتذكر كل شيء عن الأسكندرية.. الأصدقاء هناك وتجمعاتنا في مقهى كريستال على البحر.. بعض الشجارات العجيبة التي كانت وقتها خطيرة جدا والآن صارت تثير الابتسام.. أصدقاء القاهرة الذين كنا نسافر معاً ونبيت في أي مكان.... كنت أتذكر كل هذا وأعرف أنني وحيدة جداً.. لم أعد منتمية لأية "شلة" ولا جماعة بعد أن تفرق الجميع، هنا وهناك.. في القاهرة وفي الأسكندرية. وأنا كنت أعتبرهم جميعاً بديلا مختاراً عن العائلة..
وبينما أنا غارقة في هذا الشعور باليتم، إذا بي أصادف أيمن. صديقي الشاعر الصوفي. كنت من قبل قد أطلعته على حكاية عبد العزيز، ذلك بعد أن شفيت من الحمى والبرد.. أخبرته أن عبد العزيز موجود بيننا الآن. وأنه يحاول التجسد وقد وصل إلى شكل كتكوت أصفر له ريش، وإلى شكل ست سبائك ذهبية ملتصقة بكتفيّ.. برقت عيناه وصمت قليلا.. ثم قال: خلي بالك على نفسك.. ابتسمت وأجبته: حاضر.. لم يسألني أيمن ما الذي أفعله في الشارع في هذا الوقت المتأخر؟ ولا لماذا أنا متوجه عكس اتجاه بيتي؟ ظننت ساعتها أنني لهذا السبب لم أقل له أننه متجهة إلى ميدان رمسيس ومنه إلى الأسكندرية.. لكنني ما إن غادر أيمن بدقائق قليلة إلا وقابلت أخي، صديقي وأخي منذ أكثر من 15 عاماً.. وما إن قابلته إلا ودعوته للسفر معي فوافق على الفور. وبينما نحن في الطريق مشيا إلى ميدان رمسيس، رغب أخي في قضاء حاجة، كنا ساعتها بالقرب من أحد مقاهي ال24 ساعة في ميدان التوفيقية. قال أخي:
- لن أتركك في الشارع وحدك. سنجلس في المقهى وأطلب لك قهوة ثم أستأذنهم في دخول الحمام.

في أخي مسحة ابوية لا يعرفها عنه الكثيرون، لأنه يداريها تحت غلاف من السخرية من كل شيء.. ومهما قلت لأخي أنني بخير خارج المقهى وأنني أريد أن أسافر إلى الأسكندرية الآن، كان سيظل متشبثاً برأيه أنني داخل المقهى أكثر أمنا لي، خصوصاً أنه يعرف كل ندلائه وسيوصيهم علي.. أظن أن هذا بالتحديد هو ما جعلني أنفعل عليه: الوصاية. وأظنه لم يأت معي إلى الاسكندرية لأنه يرغب في ذلك بقدر ما يريد أن يطمئن علي في الطريق إلى هناك. كما أعتقد أنه رغبته في دخول الحمام ليست إلا حيلة لتأجيل السفر حتى الصباح الباكر لربما يغلبني النوم فأعود إلى بيتي وأعدل عن رغبتي في السفر.
قررت أن أجلس في طاولة على مقدمة المقهى مواجهة للشارع. انتظر أخي إلى جواري حتى جاءت قهوتي ثم ذهب لقضاء حاجته.. لم يكن يعرف أن عبد العزيز معي.

سألت عبد العزيز ما رأيه في أخي. قال إنه لا يخشى وجوده. لأنه يريد أن يحافظ عليّ. ولهذا فهو يعتقد إنه طيب. سألته عن أيمن فقال: مخيف.
وبينما كان شباب الشوارع يمرون في المقهى وعبره وحوله، كان عبد العزيز يزداد تحفزاً. ومن سبائك الذهب الست، عاد عبد العزيز يتحول إلى أشياء أخرى.. بالأحرى "يلبس" الأشكال المحيطة بنا. مثلاً، خلف طاولتي أحد عمدان المقهى. بقي عبد العزيز متحجرا فيه لفترة. وبينما أنا شاردة في ذكرياتي عن الأسكندرية، وقف ثلاثة شباب مستندين إلى سيارة تماماً أمام طاولتي وبدأوا في التخين والهمز واللمز.. يبدو أنهم كانوا يبحثون عن واحدة تكمل عدد ركاب السيارة! اغتظت منهم جداً لكنني قررت أن أتجاهلهم خصوصاً أنني أشعر أن عودة أخي قريبة.. ثم إنهم لن يستطيعوا شيئاً طالما أنا لم أترك مكاني في المقهى. تجاهلتهم وعدت إلى أفكاري. وبينما أنا كذلك فوجئت بعبد العزيز يعود إلى شكل الحصان التمساح المعدني العملاق ويحيط بي من خلفي وكأنني صغير كنجارو في جراب أمه. ثم لوح برأسه ذي الرقبه الطويلة ناحية اليسار ثم اليمين ثم دفعة قوية إلى اليسار مرة أخرى. وبينما هو يفعل ذلك إذا بي أرى رياحاً عاتية تنبعث من موقعه وتمس هؤلاء الشباب. رياح باردة ثلجية مخيفة.. وإذا بهم في اللحظة ذاتها، ينظرون جميعا معاً وكأنما حركة متفق عليها، ينظرون إلى يساري ثم يميني ثم يرحلون عن يساري.. كل هذا حدث في لحظة. وبعدما انتهى، عاد عبد العزيز إلى هيئة الكتكوت الأصفر ذي الريش ودخل في حقيبة ظهري مخرجاً رأسه فقط.
غضبت بشدة من عبد العزيز وأنبته على فعلته فأخذ يبرر:
- كنت أدافع عنك
- لم أطلب دفاعاً.
- وهل أنتظر حتى تطلبي.
- نعم، وأنا لن أطلب..
- لماذا؟
- ألا تفهم! لا أريد أن أعتمد عليك يا أخي! هذه الأشياء تحدث كثيرا في هذا الوقت من الليل وأنا أعرف كيف أتصرف معها!
- لكنني أريد أن..
- وأنا لا أريد حماية أحد
- لماذا تتقبلينها من أخي إذا؟!
- أنا ألزمه حدوده أيضا في الحماية عندما تتفاقم المسألة. ثم إن هذا الأمر لا يخصك.

عاد أخي من الحمام فأخبرته بأمر عبد العزيز:
- هناك شبح معي الآن، يسكن بيتي وسيأتي معنا إلى الأسكندرية..
رأيت في وجه أخي نظرة ريبة ورعب بينما كان يحاول أن يسخر من كلامي.. وبدأ يضحك ويتصرف معي باعتباري أكاد أكون مجنونة من أثر العيش وحدي..





الطريق إلى الأسكندرية

حدث ذلك بعد أن قابلت برناديت التي قالت لي أن "خلاصي العاطفي" سيأتيني من وراء البحر.. وبعد أن قال لي قارئ الكف أنني سأرتبط بشخص أول حرف من اسمه A، وبعد أن قابلت الكثير من الشباب الذين يدعون أحمد والذين لهم أصول سكندرية بينما يعيشون في بلدان غريبة. وكنت أنتظر في رحلتي إلى الأسكندرية هذه أن أجد هذا الأحمد الموعود.. لكن هذا لم يحدث.. ما حدث هو أنني وجدت الأسكندرية.. الاسكندرية القديمة.. في انتظاري..
في الطريق حكي لي أخي عن طليقته الكثير.. لم يكن تركيزي معه شديداً.. فقد كنت مشغولة عن حديثة بظواهر إنسانية وطبيعية أخرى.. مثلاً، وجدت نفسي أكثر انتباها لنبرات صوته وتنوعها واختلافها مع اختلاف الانفعالات التي تصدر عنه أثناء الحديث، حركة يديه وأصابعه، التفاتات رأسه.. كل هذا كان أهم عندي من الكلمات التي تصدر عنه.. كان تركيزي أشد أيضا في حركة عبد العزيز وتنوعها بين الثبات أفقيا أو رأسياً لأحد سبائكه بينما الآخرى ساكنة.. كان التصاقه بكتفي يشبه جناحين كل جناح من ثلاثة سبائك ذهبية.. وكان يحركهما تبعاً لعلاقته بالأحداث المحيطة، ككلام أخي، او التفاتة أحد الركاب الآخرين، أو شعورة بوجود شيء في الهواء يتحرك من عالم ينتمي هو إليه... لكن كل هذا كان بمثابة تشتيت عن تركيز آخر أهم. التركيز الخاص جدا بي والذي أعرفه بقدر الشجن الذي أحس به أثناءه.. قالت برناديت، قوتك مخزونة لكِ في السماء. قوتك مخزونة لكِ في السماء ليلاً.. كلما شعرتِ بالضعف أو الوهن انظري إلى النجوم... هكذا كان النصف الأول من الرحلة إلى الأسكندرية لي.. نظرت إلى السماء.. رأيت القمر بدراً بلون الدم، ومنه يخرج شريان أزرق تنفر منه دماء حمراء حولها أشكال هندسية صفراء..
قلت لأخي:
- هناك حادثة
- طبعا وكأننا نصطدم كل مرة نتقابل! طليقتي كانت...
- (قاطعته) أخي! هناك حادثة على الطريق!
- لم أر شيئاً.. ماذا هل أخبرك شبحك بهذا؟ (قال ساخراً)
- لا.. انظر إلى القمر..

كنا قد بعدنا بالميكروباص عن القمر.. لم يره أخي.. كنت قد قررت فجأة أن أثق في قدراتي.. ولا أعرف إذا كان ما حدث حدث فعلاً واكتشفته بقدراتي في التواصل مع الطبيعة، أم أنه لم يكن ليحدث لو لم أكن قد وثقت و"آمنت" بقدراتي هكذا بينما أقرر أن حادثة وقعت.. كل ما أعرفه أنه بينما كان أخي ينظر للخلف كنت أنظر إلى يساري حيث زجاج النافذة.. وكان ونش أصفر كبير مقولب على جانب الطريق وعليه سيل من خيوط الدماء بينما أمامه سيارة ملاكي زرقاء مكموشة في بعضها وكأنها ورقة مكرمشة وملقاة في صندوق قمامة... توقف سائق الميكروباص الذاهب إلى الأسكندرية وسأل عما حدث.. ولما عاد إلينا أخبرنا بكل شيء:
- سائق البلدوزر جراحه خطيرة وأخذته الإسعاف إلى المستشفى، أما من كانوا في الملاكي فقد فقدوا الحياة كلهم يا حول الله
- (أحد الركاب) يعني إذا خرج سائق البلدوز من الإصابة سيقابلة الإعدام
- (راكب آخر) والله أحسن له يموت في المستشفى..
- (راكب ثالث) يا حول الله

لم يتحدث أحد عن الأسرة في السيارة الملاكي الزرقاء للحظة، وكأن الحي أبقى من الميت فعلاً حتى لو كان الموت ذاته أبقى من الحياة.. نظر لي أخي بهلع، ويبدو أنه التقط مني الفكرة بدون كلام فقال:
- والذين كانوا في السيارة الملاكي الزرقاء ألم يتعرف على هوياتهم أحد؟
- (أجابه راكب) يا عم! ألا يكفي إنهم تسببوا في إصابة سائق البلدوزر؟! طيب هو لم يرهم، عادي، هو بلدوزره كبير، لكن هم، ألم يروا بلدوز كبير كهذا؟! ألم يروه من بعيد لكي يتفادوه ويتفادوا بذلك موتهم هذا واتهام سائق البلدوز فيهم؟!!!

ارتعب أخي من الفكرة التي يطرحها الراكب، والتي وافق عليها أغلب الركاب.. وهي أن رب الأسرة في السيارة الملاكي لم يكن من المسئولية بما يكفي لكي يتفادى البلدوزر وينجو بحياته وحياة عياله الذين قتلهم بإهماله ولهذا يستحق أن يكون هو أيضا معهم.. أما سائق البلدوزر المسكين فكان مجرد فيل لم يستطع لضخامته أن يرى نملة فدهسها! ليس ذنبه أنه ضخم. إنما ذنب النملة التي لم تجري من تحت قدمه.. ثم إن رب الأسرة في السيارة الملاكي الزرقاء محظوظ، الأسرة كلها محظوظة فقد ماتوا جميعاً معاً وانتهي الأمر، أما سائق البلدوز المسكين ففي حالة موته في المستشفى أو في حالة شفائه ومعاقبته بالإعدام، ستتشرد أثرته ولا أحد يعرف ماذا سيضطرون لفعله لكسب لقمة العيش.. أليس هذا ذنب رب الأسرة في السيارة الزرقاء اللة لا يرحمه؟!

نظر لي أخي بعيون مفتوحة من الصدمة فقلت له:
- ماذا تتوقع من بشر يحسبون الزوجة ضمن العيال؟!..




سماح

ذهبنا أول ما ذهبنا أنا وأخي إلى مقهى كريستال. شربنا قهوتنا في السابعة صباحا ثم عبرنا الطريق لنجلس على سور الكورنيش ونغني. وبينما نحن كذلك شعرت بعبد العزيز يغير شكله في حقيبة ظهري، حيث يخرج من المرحلة الكتكوتية إلى المرحلة القردية. وبرأس النسناس الصغير الخائف يتطلع من خلف رأسي إلى البحر الأزرق الفيروزي صباحا في موسم بعيد جدا عن موسم السياحة. لا. أنا وأخي كنا نتطلع إلى البحر، لكن عبد العزيز كان ينظر إلى القلعة. ينظر ويخفض رأسه لأسفل كأنه خذل حبيبا ما، أو عاد صاغرا إلى سيد ما. لمأحاول أن أتدخل فأنا لم أكن وحدي، مثل الآن. الآن أنا أقيم في الأسكندرية، وانتهيت من حملي منذ سنين وأولادي التوأم عمرهم سنتين وأربعة أشهر. ولا أقيم قرب البحر. ومازلت أقاوم لكي أكتب حكاية عبد العزيز وسماح. سماح التي لم أكن أعرفها قبلا، لكنها ظهرت لي. ذات مرة دون أن أعرف اسمها، ولا أنها أميرة من عصور سالفة تم تعذيبها في هذه القلعة، لا أقصد قلعة قايدباي، بل القلعة التي تحتها، هكذا قال لي عبد العزيز لاحقا، سماح تم تعذيبها حتى الموت في القلعة التي بنيت على أنقادها قلعة قايدباي. لم أكن أعرف. فمنذ سنين طويلة، ربما منذ عشر سنوات أو أكثر ذهبت مع بعض أصدقائي شباب الشعراء إلى الأسكندرية، وحدثت أشياء ومواقف غريبة جعلتنا في النهاية بلا مأوى فجأة، فقررنا أن ننام تحت أسوار القلعة.
في العموم، كنت دائما عندما أذهب إلى الأسكندرية أحب أن أزور القلعة ليلا من الخارج فقط. أدور حول السور الخارجي المنخفض الرفيع الزلق. أحب هذه المغامرة التي توقع القلب! أن تدور محازيا لسور مرعب بينما تطرطش مياة البحر زبدها عليك.
في تلك الليلة وبينما كل أصدقائي نائمين، سمعت صوتا كعواء كلبة بحر مريضة. صوت رخيم في الكثير من الألم، بعد أن فقد حدته، صار أخش وبطيئاً. قمت من موضع نومي وتحسست في الظلام سور القلعة اللزج من تواتر المياة عليه، ومشيت على الحرف المطحلب الرفيع حتى وصلت إلى مكان مصدر الصوت. البحر أمامي، تحت قدمي عنيفا، نظرت خلفي، كان شباك من شبابيك القلعة. شباك خشبي على هيئة مربعات، خلفة أطلت علي وبرزت شيدة في حجاب أسود، أو قد يكون نقاب أسود، لم أر وجهها، لكنني تخيلته في رأسي ناصع البياض، مستدير مثل القمر البدر في تمامه، لكنني لم أره. رأيت الخطوط العريضة لنقاب أسود يبرز في وجهي من خلال الشباك الخشبي، يخترقه دون أن يهدمه، كأنه ظل كثيف.
في الصباح بعدما استيقظ أصدقائي عاودت الكره إلى المكان ذاته، كان هناك أحد المدافع السوداء الضخمة خلف الشباك. لم أخبر أصدقائي شيئاً برغم توتري الملحوظ ذلك الصباح التالي. لم أكن أعرف بماذا اشعر بالتحديد. شعور بين الرعب والذنب بين التوجس والعطف. وبقيت مرتعشة وجسمي بارد أغلب ذلك النهار. ومنذ ذلك الحين لم أذهب أبدا إلى القلعة لا ليلا ولا نهارا.
أما عن ذلك النهار حيث كنت أنا واخي وعبد العزيز على الكورنيش، قال أخي إنه يريد أن يذهب لتفقد بعض الكتب في شارع النبي دانيال، لم أكن أعرف ماذا أفعل، قلت سأذهب معك. قال لي عبد العزيز إن هناك أقارب له في القلعة بينهم سوء تفاهم كبير وينبغى أن يذهب لحله لكنه خائف جدا ويفضل أن يبقى معي. قال إنه يريدني أن أذهب معه لكنني رفضت. قلت له إنني لن أترك أخي وأن يتشجع فأخيرا وجد اقاربه، قلت إنني كالعادة سأبقي بابا من عقلي مفتوحا عليه لأسمع معه وأرى كل ما يحدث. ولكي يعود إلى بسرعة إذا ما شعر بتهديد ما لحياته. أشعره ذلك بطمأنينة كبيرة، وبدأت أشعر بمادته كقرد صغير تسيل وتتحول تدريجيا إلى دخان بلون العسل الأبيض يسيل ويطير متخذا البحر إلى القلعة. وشعرت بجزء من روحي يسيل معه إلى هناك. هناك في القلعة التي تحت القلعة، كانت سماح وعبد العزيز أكثر تجسدا مني، هناك، كان هذا الجزء من روحي هو الشبح الذي لا يراه سوى عبد العزيز.



حوار ثلاثي ببعدين

جلس عبد العزيز على ركبتيه أمام سماح. نعم كان لعبد العزيز ساعتها ركبتين وقدمين ويدين ووجه وجسم. كان إنساناً أو هكذا رأيته، وكانت هي إنسانة أيضا، بجسد وضحت عليه علامات التعذيب التي لا يمكن وصفها. وصعقني أو جدت فيها ذات الوجه الذي منذ سنين رأيه في القلعة، وكانت تتشح بذات السواد. وحولها الأغلال المعدنية لم تفك من على ملابسها ولا جسدها. انا الوحيدة التي كنت هناك غير مرئية، كعين كامرا، وصوتها. كان الشرر يطل من عيون سماح، كل الغضب وكل الرغبة في التدمير. وكان عبد العزيز يكاد يبكي.
سماح: كيف عصيتني وتركتني
عبد العزيز: لم أستطع أن أراك تتعذبين وأنا لا أستطيع شيئاً. أنا أفنيت حياتي لأجلك وهذا حقك علي. ثم وجدت أنني لا أستطيع حمل حتى ذره رمل فكيف أساعدك وأحملك من هنا؟
سماح: كاذب
عبد العزيز: بل هذه هي الحقيقة. لو كان بإمكاني الآن فعل شيءن فقولي، أنا لا أستطيع إلا تنفيذ الأمر.
سماح: احرقهم جميعا كما أحرقوني، اقلب حياتهم، عذبهم بوجودك، افعل شيئاً، إنهم كلهم اشرار.
عبد العزيز: ليس صحيح.
سماح: أنا أعلم أكثر منك. أنا جربتهم. ثم إنني آمرك!
عبد العزيز: أنتِ هنا منذ قرون، أنا تجولت. ليسوا جميعا أشرار. لا يمكنني تنفيذ أمرك. احرقيني!
سماح: وماذا عنها؟ هي التي جعلتك تعصاني الآن، هي التي لعبت بعقلك ونتأت لك إرادة لتشوهك، هي التي استنجدتُ بها فخذلتني.

نظر إلى عبد العزيز في رأسه فنظرت له، تذكرت ساعتها يوم النوم عند سور القلعة فقلت لعبد العزيز الذي يسمعني في عقله:
أنا: لقد أفزعتني
عبد العزيز: لقد افزعتِها
سماح: هذا هو الفزع من رؤية العذاب يستنجد بك. ليس مبررا لعدم حرقها
أنا: قل لها إنني هنا ومستعدة لأن تحرقني إن كان هذا سيخلصها من أسرها.
عبد العزيز: تقول لكِ إنها هنا، ومستعدة أن تحرقيها لو كان هذا سيخلصك من أسرك
سماح: لن يخلصني من أسري لكنه سيشفي غليلي، احرقها.
عبد العزيز: لا أستطيع. إنها أكرمتني، لم تقبلني كخادم، ثم إنها قالت إنها مستعدةأن تحرقيها أنتِ وليس أنا!
سماح: وأنت خادمها أم خادمي!
عبد العزيز: خادمك المطيع يا مولاتي، لكنني سأحترق قبل أن أحرقها. هذا عقلي، كلميها.
وفتح عبد العزيز بابا من عقله على سماح، وتواجهنا معا في عقله أنا وهي.
سماح: جئت للتشفي في حالي.
أنا: كنت ميتة ايضا عندما جئتك أول مرة.
سماح: وثقت بك وجلبتك إلىّ لتخلصيني.
أنا: أنتِ لا تسمعيني، اقول كنتِ ميتة عندما جئتك أول مرة. أنا لا يمكنني أن أخلص ميت! ربما تكوني أنتِ اخطأتي عندما اخترتني لأخلصك!
سماح: كل هذا العذاب ثم تلقين اللوم علي؟
أنا: ما اسمك؟
سماح: ليس لي اسم الآن. أنا المعذبة في جسدي لا أملك سواه، لا أملك سوى عذابي فيه.
أنا: (طرأت لي فكرة بارقة) اتركيه!
سماح: ماذا؟
أنا: نعم اتركيه. كوني حره منه. أنت ميتة وتعرفين أنك ميتة، أنت الآن حره من الألم الجسدي، فلماذا تتمسكين به، لماذا تأسرين نفسك فيه؟ أرأيتِ، كنتِ مخطئة من أول مرة في جلبي لأخلصك، أنت لا تحتاجين لمن يخلصك الآن، أنتِ خالصة فعلا، اتركي جسدك بكل ذكريات تعذيبه، بكل الألم الذي سيتعفن معه وعيشي حرة.
سماح: أنتِ تخادعينني، كيف أعيش بدون جسدي
عبد العزيز: انا أعيش بدون جسد. وبدون اسم.
سماح: لا تخادعني أنا أراك. أنت عبدي كما عرفته، شاب فارع أسمر، واسمك عبدي، هكذا كنت دوما أناديك فتجيب، اسمك عبدي.
أنا: وهل تريني؟
سماح: في عقلي فقط.
أنا: أي أنني بالنسبة إلى عالمك، لست جسدا. أنا الآن بالنسبة لك مجرد فكرة في الرأس. من ناحيتي أنا الحقيقة أنني لي جسد ولي اسم. أما عبدك فمنذ رأيته يحاول أن يتجسد حتى يجعلني أراه، أقصد يحاول أن يتجسد في مادة تشبه مادتي. وأنتِ تتمسكين بجسد تعفن. اخرجي منه، ثم انظري ماذا أصبحتِ، تصالحي مع روحك بالحالة التي صارت عليها. كنتِ شرنقة ثم خلعتِ الجسد فصرتِ فراشة تتجول مثلما عبدك يتجول. اخرجي وسأختار لك اسماًُ
سماح: لا. اذهبا عني الآن. لا أريد أحداً، لست بحاجة لأحد. اغربا عن وجهي.
عبد العزيز: لكن..
أنا: (قاطعته) حاضر. فهذا صحيح. أنتِ لستِ بحاجة لأحد. أنت بحاجة لأن تسامحي كل من خانوك أو عذبوك، فهم في النهاية قد حرروك.. لو كنت مكانك لخرجت من ذكريات الجسد المعذب هذا، وفرحت بصورتي الجديدة وقبلت كون فانية ضعيفة قررت أن تسميني "سماح" حتى أبقى طالما حييت أتذكر هذه اللحظة التي تغلبت فيها على آلامي، وصرت فعلا جديرة بلقب الأميرة "سماح".

خرجت أنا وعبد العزيز. وعاد كشبح رجل أسمر يمشي إلى جواري في شارع النبي دنيال حيث أخي مازال يقلب في الكتب. بقي عبد العزيز صامتا حتى نهاية الرحلة. سألته إن كان يريد أن يختلي بنفسه، فاجاب إنه سيعود بطريقته الخاصة إلى بيتنا في القاهرة ويفكر حتى أعود.
بقيت طوال رحلتي مع أخي في الأسكندرية، فاتحة باب من عقلي علي عبد العزيز وباب آخر على سماح. كان عبد العزيز في بيتي يتحرك ويطير ويتحول من هيئة إلى أخرى ويلتحم بالجدران الخ.. كان يفكر، كانت هذه هي طريقتي في التفكير. ومن الباب الآخر كنت أرى سماح، تبكي، ثم تتحسس جفن جسدها المتعفن فلا تجد قد خرجت منه دموعاً. كانت تحوم حول جسدها تعانقه، تلمسه، تتأمله، تدور حوله وتدخل فيه وتخرج منه.. كانت هي الآخرى تفكر. وكنت في طريق العودة أغلق عيني، أرخي جسدي، أتخلى عن حركته وصوته لأفكر. عندما وصلنا القاهرة، قال لي أخي: صحي النوم!




سلام

جلس عبد العزيز إلى جواري بهيئته البشرية. قال:
- هل أعجبك؟
- أنا فخورة بك
- هل يمكن أن تحبيني الآن؟
- أنت عزيز عندي، بيننا عشرة وذكريات. لا أظن أنني سأنساك. متى سترحل؟
- دبرت أسطولا من بلادنا ليأتي عبر البحر إلى سيدتي، أميرتنا، حتى تعود إلى أرضها بحفاوة.
- عظيم. وهل قبلت هي الفكره؟
- كادت تقبل فكره الخروج من جسدها، لكن فكرة السماح هذه لا أظن أنها ستقبلها لو لم تجد أسطولا من بلادها يتشرف بإقلالها إلى حيث تنتمي. الأسطول الآن قرب الوصول إلى القلعة، وبينما أحدثك ينادونها وأظنها فرحة للمفاجأة. سسأقنعها بالسماح. فهل تحبينني الآن؟
- انت عزيز عندي.. اسمك عندي العزيز.
- وليس الحبيب. مفهوم. عموما أنا عبدها وأنتمي حيث تنتمي.
- لو كنت مكانها لأعتقتك. فأنت نعم الصديق المخلص.
- هي تسمعنا الآن. وقد وافقتك. لقد أعتقتني وسامحتك.
- ما أجمل هذه اللحظة..
- نعم وما أحزنها أيضا.. فأنا لا أريد أن افارقك.
- سأبقي لك دائما بابا في عقلي.
- وأنا أيضاً
- اشكر سماح من أجلي
- تعرفين؟ أعتقتني قائلة يا عبدي.. فهل أسمي الآن
- عبد العزيز.
- أشكرك
- أسمعني عنك، أراك قريبا.
- إلى اللقاء.




الظهور الأخير لعبد العزيز

كان يمكن أن تنتهي قصة عبد العزيز عند هذا الحد، هذا الحد ذاته التي انتهت عنده قصة سماح. هكذا بسلام منذ أكثر من أربع سنوات. لكن الآن، بالتحديد منذ أقل من أسبوع، عرفت لماذا لم أكن أستطيع خلال هذه السنوات الأربع أن أكمل كتابة القصة، أدركت لماذا كانت تحدث لي العراقيل. عرفت. فالقصة لم تكن قد انتهت.

كنت في فرنسا منذ شهر، وقبلها كنت في كوبا. ما أريد أن أقول هو أنني مؤخرا كنت كثيرة السفر، وكانت إلى جوار عمله يبقى زوجي مع أولادنا. ولم يكن قد استقطع أي وقت لنفسه. قال: سآخذ أجازة من العمل واسافر إلى سيوة. زوجي يحب سيوة، وكثيرا ما ذهب إلى هناك وحدثني عن أماكن في سيوة تشبه بصورة أو بأخرى الأماكن التي رأيتها في حلم أميرة الجنوب، وأنه منذ القديم كان هناك غزو ما لمصر آت من طريق الصحراء الليبية، وأنه حتى الآن مازالت هناك آثار بعض السجون القديمة. أنا لم أذهب مطلقا إلى سيوة، وبرغم ما يحكيه زوجي فلن أذهب الآن معه في عز الصيف، إلى حيث يمكن أن تتلف الحرارة الجهنمية صحة أولادنا! ثم إنني أفهم ايضا رغبة المرء في أن يختلي بنفسه لفترة بعيداً عن الزوجة والأولاد. لكل هذه الأسباب لم أذهب معه. لكنني في الوقت ذاته أشفقت على أطفالنا من هذا الشعور بتناوب الأم والأب عليهم. تسافر الأم فيبقى الأب، يسافر الأب فتبقى الأم.. من حق الأولاد أن يروا أمهم وأبيهم في نفس السياق المكاني، وليس دوما بالتناوب. لهذا ولكي لا يشعروا بغياب الأب، قررت أن آخذهما أيضا في رحلة.
استقلينا قطار الثامنة والنصف مساء السبت، القطار المتجه من الأسكندرية إلى القاهرة. قبلها استأذنت أمي أن نستعير "شقة الروضة" هكذا كنا دوما نسميها، وهي الشقة التي تزوج فيها أبي وأمي ، والتي فيها صنعا بذرتي. والتي فيها شاهدت أغلب أحلامي، والتي فيها أيضا كنت أسكن بمفردي لفترات بعدما انتقل أبي وأمي إلى بيت عائلة أبي في الجيزة. هذه الشقة التي فيها قابلت موسى وعيسى وعجوز القبيل الدب الذي أهداني قناع الهدد، وأميرة الجنوب..الخ.. وايضا عبد العزيز.
حوالي الثانية عشر دخلنا الشقة. كان طفلاي نائمين. تركتهما وخرجت أشتري بعض متطلبات البيت. وهذا أمر طبيعي. فالقاهرة ليست كفرنسا. حتى في الثالثة والرابعة صباحاً يمكنك أن تجد محال بقالة وشوادر خضروات وفاكهة ترحب باستقبالك لشراء متطلباتك! عدت من جولة الشراء ونمت.
في الليلة الأولى لم أحلم بشيء. هذا لا يزعجني. فغالبا ما تأتي أحلامي المرتقبة في الليلة الأخيرة قبل الخروج من المكان. ثم إنني لم أستطع النوم جيدا أيضا. استغربت قدرة طفليّ على النوم المستقر في سرير لم يكونوا ليألفوه بالمرة. فقد كانت هخذه هي أول مرة لهما يزورا فيها "شقة الروضة". وضعتهما على سرير هو في الأصل كنبة تنفتح لتصبح سريرا. هي ذاتها الكنبة التي اخترتها لتكون شريكتي في الصالون – أحب حجرات المنزل إلى قلبي – والتي عليها نمت، وعليها ظهر لي عبد العزيز وعليها ودعني، والتي إلى جوارها ظهرت لي ال6 ظلال التي صاحبتني إلى مقبرتي، ومنها انطلق شباب القبيلة لصيد الدب..الخ
الآن هذه الكنبة ليست في الصالون. إنها في حجرة نومي أنا واختي. تلك الحجرة التي كنت فيها ضغيرة ألب بالضوء والظل، أرتمي على السرير الذي يأخذني في رحلات أثناء النوم.. وضعتها على أريكتي في حجرة نومي. كانت هذه الحجرة دوما حجرة "العيال".
لكنني لم أستطع أن أنام في حجرة أمي وابي.
نمت على كنبة الصالة. كنبة الصالة البنية القاتمة التي عليها جلست يوما وكان عجوز القبيلة على يساري يلتبس بدب بني. الصالة، التي فيها نصب ذات يوم خيمته.
نظرت إلى باب الشقة فوجدت التمساح الحارس مازال هناك. وأدركت أنه حارس المكان وليس حارسي الشخصي كما كنت أظن من قبل. حارس مكان لم يأتي معي إلى بيت زواجي بالقاهرة. بيت زواجي، حيث رأيت الحية ذات الجرس أو لنقل "الصِل" كما في الحلم الذي فسره لي أيمن. هي أيضا حارسة مكان، فلم أجدها هي الأخرى سافرت معي عندما انتقلنا إلى الأسكندرية لنقيم.هنا في الأسكندرية لم أستكشف البيت بعد. لم يعلن لي عن شي. كل ما تبين لي أول ما سكنته أنني صرت فجأة كثيرة الشكوى، وهذه ليست طبيعتي، فعرفت بسرعة أنه قد تكون ساكنة المكان قبلنا قد تركت فيه هذه الروح التي لم تكن تفارقها بينما هي فيه. الآن انتهت الشكوى من عندي فعرفت أن الروح تبعت صاحبتها عندما تعرفت على أنني لست هي.
نظرت باتجاه الردهة الصغيرة المربعة التي تصل بين المطبخ وحجرة والدي المهجورة الآن والحمام، فلم أجد الأسد المحشور ذي الشعر الذي يشبه بتلات زهرة عباد الشمس، تلك البتلات التي كانت تنز عرقا بنفسجياً.. شعرت باليتم عندما لم أجده. كنت أعتبره أحد آبائي.. ذهبت إلى المطبخ فوجدت قشر بيض أطفال التمساح الحارس لكن التماسيح الصغيرة هجرت المكان. ربما أصبحت حارسة لأماكن أخرى، أو لأشخاص آخرين. ربما تحرس أولادي.. لا أعرف. فأنا لا أستطيع رؤية حراس الآخرين. أحياناً يمكني رؤية أعداءهم. لكن حراسهم، لا. ولا أستطيع في أغلب الأحيان رؤية حراس الأماكن الأخرى غير التي أسكن فيها، أو أكون قد سكنت فيها في حيوات سالفة أو متقاطعة مع هذه الحياة في أبعاد أخرى.
لم أنم جيداً. لكنني في الصباح التالي كنت نشيطة جدا.
مرت الأيام بدون أحلام تذكر. عادية. طبيعية. لكنني مع الوقت وعدم القدرة على النوم بعمق ليلا بدأت ساعتي البايولوجية تضطرب. بدأت أصحو بعد أن تأتي المربية بساعتين. وأنام قبل الفجر بقليل. وبدأ مزاجي يتعكر. وبدأ الأطفال يلتصقون بي أكثر كأنهم حيوانات صغيرة تخشى كارثة قريبة الحدوث. ولكي أخرج صرت آخذهم والمربية معي إلى الممر ذي الشجر ليلعبوا مع أولاد الجيران. الجيران الذين كانوا صغارا أيضا في وقت ما وكنت ألعب معهم في ذات الممر الذي تحيط به ثلاث عمارات على هئية حدوة حصان. عمارتنا هي الجزء الأوسط من الحدوة، الجسم المشدودة إلى الأطراف.
لا أعرف لماذا أحكي كل هذا. ربما يدفعني شيء لا ألمسه إلى تأجيل نهاية قصضة عبد العزيز، أو ربما أحاول ألا أنسى تسجيل أية تفصيلة من التفاصيل التي تحيط بهذه القصة، تفصيلة معمارية أو اجتماعية أو حتى تفصيلة بلا سياق.. لكن الأكيد أنني أفعل ذلك بسبب خوف بدائي من الدخول على هذا الحلم بصفحة بيضاء. خوف بدائي، يشبه خوف إنسان الكهف الأول من الجدران الفارغة، التي لشدة الخوف من فراغها الصامت الذي لا يعلن عن كنهها، صار يرسم عليها، ليس أي رسم، بل يرسم تفاصيله هو. بغض النظر كانت مخاوف أو أحداث. فقط تفاصيله. كان يغطي على صمت الجدران الزاعق بصوت أحداثه.. يثرثر. لما لا. نعم. يثرثر على الجدران. وأنا أثرثر على الورقة البيضاء.
كنت نائمة في الصالة على الكنبة البنية. رأيت رجلا وسيما أسمر مفتول العضلات بغير مبالغة أمامي، ورأيتني أنا أيضا واقفة. كان ينظر لي. وكنت مضطربة جدا بين الرغبة في تجاهله، والرغبة فيه التي تزداد كلما نظرت إلى عينية. كان ينظر لي بتحدٍ. كأنها علاقة حرب، صراع قوى، وأظنني كنت سأخسر فيه. كنت مرعوبة ومذهولة ومأخوذة في الوقت ذاته. بقيت مسمرة في مكاني. كان هذا هو الدفاع الوحيد الذي استطعت أن أقوم به أمام رغبتي فيه. ولا أعرف ماذا كان سيحدث لو تقدم هو خطوة واحدة نحوي. لكنه لم يتقدم. انتظر أن أقوم أنا بالخطوة الأولى. وأنا لم أقم بها. (قال أيمن ذات مرة لي، لسبب آخر غير هذا، إن عالم الأرواح مجاور لعالمنا ومتداخل معه. وكأنه بينه وبيننا باب. لكن المقبض من ناحيتنا نحن. الروح لا تعرف كيف تفتح الباب. لكنها قد تغريبا بفتح الباب من ناحيتنا، بوسائل ترغيب وترهيب واستخدام نقاط ضعفنا، كالغرور أو الفضول..الخ. وما إن نفتح الباب لا يمكن أن نتكهن ماذا سيحدث، صعب جدا أن نمتلك السيطرة على كيفية إغلاقه.) وبينما المشهد متجمد في حرب باردة بين عينين، ظهر زوجي في الحلم فجأة. وقف إلى جواري، فوقفت خلفه وداريت رأسي في ظهره. ثم ماذا؟ لم يكن الحلم يشي بالمزيد. كان لحظة هكذا أبدية لا خروج منها، سوى أني سمعت صراخ أطفالي. فتحت عيني فوجتهما إلى جواري يصرخان بذعر من رأى شبحاً! أخذتهما إلى سريرهما، ونمت بينهما فيه وأنا أحتضنهما لأطمئن روحي بوجودهما بقدر ما أحتضنهما لأطمن روحيهما بوجودي. هكذا نمت بعمق بينهما، على سريرهما، الذي هو ايضا الكنبة التي قابلت عليها عبد العزيز أول مرة تجسد لي فيها على هئية حصان معدني.
شعرت بأشعة ذهبية دافئة تحوم حول وجنتي من الجهة الشرقية. رفعت رأسي لأستطلع الأمر. فوجدت على طرفي الكنبة/سرير المواجهين للشرق تمثالين ذهبيين لـ "شيفا" الإله الهندي، يرقصان بحركات بطيئة لليدين أمام الوجه في محاولة رؤيتي(مراقبتي؟ لا، هذه بارانويا!!) دون تمكيني من رؤية وجهيهما. لأول وهلة كان الذهول، ثم عدم التصديق مع الفرحة بإمكانية أن يحدث هذا. دفست رأسي في الوسادة. ثم فتحت عيني فإذا بي تماما بين وجهي طفليّ. كنا ثلاثتنا متجهين برؤسنا للشمال، وبأقدامنا للجنوب. ابني على يساري، على جنبه الأيسر يواجه الشرق، وابنتي على يميني على جانبها الأيمن تواجه الغرب، وأنا بينهما على بطني كسلحفاة، ورأسي تواجه أسفل.







ثم ماذا؟

أعرف أن الرجل الذي رأيته هو تشكل من تشكلات عبد العزيز موجه تجاهي. تشكل يحثني على إغلاق باب عقلي من ناحيته. وإلا انفتح بصورة لا يمكنني السيطرة عليها. لهذا فقد أغلقت الباب. أعرف أيضا أن طفلاي حمياني. مرة باستيقاظهما وذهابهما إلى حيث أنام صارخين بذعر في وجهي لأستيقظ، ومرة أخرى بنومي بينهما في سريرهما. وبتمثالي شيفا الراقصين على طرفي السرير. أعرف أن أغلب الناس يعتبرون الأم مصدر حنان والأب مصدر أمان. لكن هل اعتبر أحد الأطفال مصدر حماية للأم؟ نعم لقد كنت في حماية أولادي لذا لم يمسني سوء. تحدثت إلى صديقي أيمن عن هذا الأمر فقال إن ابن عربي تحدث عن هذا الأمر، قال لي جمله لكنني لم أحفظها طبعاً. لكني أعرف، وأعنيها بدقة هذه المعرفة، أنني منذ حملت بطفليَّ وهما يحميانني. وكثيرا ما اعتقدتُ أن الله يحب النساء أكثر من الرجال. لذا فقد جعل للرجل فرصة واحدة للاتحاد مع الطبيعة الأم دون عداء وبمعرفة سحرية، وهي الفترة منذ لحظة التشكل في بطن الأم، فالولادة حتى لحظة الانتباه للواقع المحيط والتفاعل معه. أما النساء فقد أعطاهما فرصتين. الفرصة الأولى وهي المثيلة بفرصة الرجال، أما الثانية وهي الفرصة التي تحمل أكثر وعيا وإدراكا، وهي فترة الحمل والإرضاع. الفترة التي تكون فيها المرأة أكثر ارتباطا بحيوانيتها ككائن ثديي من إنسانيتها ككائن حضاري. هذه لحظة مهمة جدا. فلو كرهتها المرأة وقاومتها فهي في الغالب تقاوم طبيعيتها، ولو أحبتها وتجاوبت معها واستوعبتها ستكسب الكثير من المعرفة المعنوية والحسية التي تعجعلها أقوى كائن في العالم والأقرب إلى الخالق، فهي تدرك جلال أن تشاركه الخلق. وتدرك فخامة الاتحاد بالطبيعة.
أكتب هذه الجمل، التي أؤمن بها أشد الإيمان، ثم أضحك. أولا لأنني أحس أنني أتحدث مثل الشيخ الشعراوي. لا ضرر في ذلك. فليس عندي شيء ضده. لكنني لست هو. فلماذا جاء على لساني؟!
أما الأمر الآخر الذي يضحكني، هو أنني أريد أن أنهي هذا الكتاب، أن أكتب خاتمته فيعود لي عبد العزيز والأولاد وأيمن والمرأة والطبيعة.. يعود لي كل شيء ماعدا الانتهاء من الكتاب. هذا الانتهاء الذي هو أيضا يستحق السخرية منه لأني أريده أن يكون حكمة وعظة! هذه الأيام الحكمة والعظة أمران يجلبان السخرية، لكنني لست متأكدة من أنهما يستحقانها.
لكن ربما تكون هذه هي المسألة. المسألة التي تجعلني أحترم اللحظة التي لا تفصل بين وحشية المرأة وترقيها الروحي في آن، لحظة الشعور بحركة الطفل في أحشائها، اللحظة التي لا تفصل بيني وبين سريري بينما أرفع يدي وقدمي أشجاراً في غابة جسدي المستلقي على سريري "الأم"، طبيعتي "الأم"..الأم؟ الأم التي قد لا تكون في بعض الأحيان واضعة قانون البيت، لكنها في كل الأحيان هي التي تقوم بمراجعة أشكال ونسب تنفيذ هذا القانون. القانون، الذي عندما انفصل الإنسان عن "طبيعته الأم" صار وضعيا، مؤسساتيا، مقيدا لهذه "الطبيعة ذاتها".
هل كنت أريد أن أتحدث عن الطبيعة وعن الأم؟ أو عن الطبيعة الأم؟ ربما، لكن ما أنا متأكدة منه هو أنني كنت أريد في الخاتمة أن أتحدث عن الاتصال. هنا، عندنا، عندما يقولون أن فلان "متصل" يربطون اتصاله بشخص آخر أو بقوى أخرى، الجن والعفاريت، الطاقات الخفية في الكون كالجاذبية والكهرومغناطيسية..الخ.. دائما الاتصال مرتبط بآخر، وأظن السبب في ذلك هو أننا عندما نتصل تليفونيا فإننا نتصل بشخص آخر.. لكن من النادر (أنا لم أجد شخصا) أن يتحدث أحد عن الاتصال بنفسه. فلو اتصل بنفسه سيكلم نفسه وسيكون في هذه اللحظة "مجنون"! هذا أمر لا يصدق بالنسبة لي. فبالنسبة لي، يبدو أننا أفرطنا في تشريح أنفسنا، في التمثيل بجثثنا المتحركة. وهل أسميها غير ذلك؟ هذه الكائنات البشرية التي تتحدث عن العقل باعتباره نقيض للقلب، عن الروح باعتبارها نقيض للجسد، عن العلم باعتباره نقيض للخيال، عن الحياة الطبيعية باعتبارها نقيض للحياة المتحضرة؟ بصراحة لو انفصل جسدي عن روحي، عقلي عن قلبي، علمي عن خيالي..الخ، فأنا شخصيا لن أسمح بهذا أن يحدث لي وأنا حية. فإذا كان لا يمكن فصل الروح عن الجسد إلا بالموت، فأنا لن أدع الروحاني مني والجسداني ينفصلان إلا بالموت أيضا، وقد لا يفصلهما هذا أيضا، لا أحد يعرف، على الأقل أنا لا أعرف، لست متأكدة.. لذا فإنني لن أفصل أيضا حياتي النهارية عن حياتي الليلية ولن أجعل الليل والنهار في حياتي نقيضين. لذا فلا أستطيع أن أفصل نشاطاتي العملية عن نشاطاتي الذهنية. خيالي ليس وهم، لكنه خيالي. وهو أداة تعمل يغزيها جسمي مثلما تغزيها روحي بدون فصل بينهما. بصراحة أنا لم أعد أتصور سيرة ذاتية بدون أحلام وخيالات ورؤى إلى جانب الأحداث والأفكار والانطباعات. جنبا إلى جنب، كقدمين. لايمكن أن يمشي هذا الإنسان بواحدة باترا الأخرى. فهل بهذا المعنى القدم اليسرى هي نقيض اليمنى؟! هل لرجلك اليمين فضل على رجلك الشمال أو العكس؟! أو كالشهيق والزفير، هل يمكن أن تفعل واحد منها متجنبا الآخر، لمجرد أنه "يخرج معه ثاني أوكسيد الكربون لذا فقد يكون ملوث للـ"بيئة"، هل يمكن أن تفعل ذلك وتعيش؟ برغم أن المبرر قد يكون منطقي جدا، لكنه ببساطة ليس عملي. هكذا أيضا أرى أحلامي. قد تكون ملوثة لبيئة المحيطة التي تسخر من جانب الغير مثبت علميا في حياتنا وتعتبره خرافات يكون العيش بدونها أفضل لصحة الإنسان العقلية وأداءه العملي، لكن ببساطة، كالزفير، هذا الجانب من حياتنا بدونه يمكن أن نموت أيضا، قد يكون من المنطقي إقصاؤه لكن ببساطة لن يكون هذا عمليا أبداً. على الأقل بالنسبة لي لن يكون عمليا أن أتركه، فهو كالقلب بالنسبة لي، كالمضخة التي تضخ الدم بدفقات منتظمة إلى روحي فتجعلها حية، ولا تقوضها في دور الموتور المشغل للجسد، تجعل لها كيانا يتصل بكيان الجسد، وليس مجرد أداة يستخدمها الجسد، هنا، أتصل بنفسي. ولا أحتاج لأن أكلم أحداً ليمدني بأية اتصالات.

البعض يقولون أيضاً: عندما تحلم بأشياء كهذه أو تراها في اليقظة ينبغي ألا تخبر أحداً. يقولون: هذه ميزة، هذه هبة، هذه قدرة أعطيت لك، وهي نادرة، ليست متاحة لكل البشر. يقولون إنك لو تحدثت عنها تزول. يقولون لا ينبغي أن تحكي أحلامك أو رؤاك. ستزول. يؤكدون على ذلك كأنهم مروا بالتجربة. لا أعرف. قد يكون هذا صحيحاً، قد يزول هذا الشيء عنك إذا أفشيت سره، لكنني لا أبالي. ولا أعتقد إنها ميزة نادرة. إنها ليست ميزة على الإطلاق. في نظري هي إمكانية طبيعية بكل ما تعني كلمة "طبيعة". بكل المعاني والأوجه التي تعنيها كلمة "طبيعة". ثم إن ضاعت هذه "الميزة" فأنا في الأصل لم أطلبها، لم أستدعها ولم أحاول الحصول عليها. تماما مثل جلدي الذي يتقشر "طبيعيا" كل ستة أو سبعة أيام، أو مثل كرياتي الدومية الحمراء التي تموت وتتجدد غيرها "طبيعياً".. هذه أشياء عادية كلها، بما في ذلك الأحلام وغيرها من اشكال الخيال. الخيال كجسم.
طبيعي أم غريزي؟ لا أعرف. ولا أظنني أجد فرقا بين المرادفتين. لكنني أظن أن هذه الطاقة "الخرافية الوهمية المرضِّية" عند البعض، والإعجازية، الاستثنائية، الروحانية" عند البعض الآخر، هذه الطاقة أظنها جدياً مكشوفة أكثر لدى النساء منها لدى الرجال – على الأقل في بلادنا - ، ليس فقط لأنهن منحن فرصا أكثر من الرجال للعودة والتآلف والامتزاج بالـ "طبيعة"، لكن ايضاً لأنهن منذ الصغر يتم تربيتهن على الشعور بالخطر، على الانتباه لما قد يحدث قبل أن يحدث، للحدس بما قد يحدث. إنهن أقل شعورا بالأمان والاسترخاء الاجتماعي تجاه كونهن نساءً، لذا فإنهن يورثن هذا الجين الطبيعي؟ الغريزي؟ البدائي؟ لا أعرف. لكنه الجين الذي كان يجعل البشر يتخاطبون عن بعد قبل اختراع التليفون، ويستخدمون بندول الخطر في دماغهم مثلهم مثل الحيوانات قبل اختراع الجهاز الكاشف للكوارث الطبيعية.. الخ.. إنه هذا الجين الكامن بلا فعالية عند الرجال في بلادنا، الذين يحاولون أن يكونوا أكثر عملية وأشد سخرية مما لا يمكن لمسه، الرجال الأطفال الذين لم يتعدوا هذه المرحلة، مرحلة النطق باسم الشيء عند الإشاره إليه. وإن لم يكن هذا صحيحاً، فماذا يفسر إغماءات أمي المتكرره بلا سبب طبي جسماني أو نفسي أو عقلي في الثلاثينات من عمرها سوى أن كتلتها المادية لم تكن تستطيع أحيانا تحمل ما تراه؟ وماذا يفسر حواراتي مع جدتي الصامتة بسبب الشلل، حوارات من طرفين وكأني أسمع صوتها وردودها وأسئلتها؟ بل وماذا يفسر كون ابنتي التي لم تبلغ بعد الثلاث سنوات تقول بلغتها الطفولية ما يعني أن أخاها نائم، فما إن تمر دقيقتان على جملتها إلا وأجده قد نام.
كما أنني أعتقد أن الرجال الذين يعتقدون أو على الأقل لا يمانعون أن يعتقد أحد بأن للذات البشرية والكونية أبعادا أكثر تعددا من البعد العلمي والمادي الملموس فقط، يكونون بالفعل نعمة كبيرة. فأبي كان سندا كبيرا لي في تقبل "خيالي" منذ الصغر وساعدني في تركه يتحرر متفهما الفرق بين التخيل وبين الكذب عند طفلة الثالثة من العمر، وزوجي يستمع إلى أحلامي ويقدرها لدرجة أنه أحياناً يذهب إلى هذا المكان أو ذاك، أو يبحث في هذا الكتاب أو ذاك لإيجاد معلومة قد تساعد في اكتشاف ما إذا كان ما أحكيه له يمثل بعدا أفقيا أو رأسياً في التاريخ والمعاني على حد سواء..
لا أعرف لماذا أثرثر الآن؟ لقد تخطيت بمراحل لحظة الخوف البدائي من الصفحة البيضاء. فما هذا؟ شهوة الكلام؟ التطهر بالاعتراف؟ أم أن هناك شيء لم أمسك به بعد وأفتش عنه بين الأفكار التي أحاول فرزها على الورق؟ ربما لا يكون لكل هذا معنى سوى متعة كتابته. متعة التمكن من تثبيته في جسم اسمه الكتابة، جسم يمكن الرجوع إليه عندما تخونني الذاكرة.
الذاكرة. عندما كنت في عمر السادسة وقالوا ينبغي أن أستذكر دروسي، وأتذكر ما ذاكرته لحظة الامتحان، عجبت من فكرة استعادة الشيء عن عمد من العقل إلى الورق مرة أخرى! وبدأت أتساءل أين ستذهب الذاكرة. عندما نموت، أين ستذهب الذاكرة. وكنت كلما سألت جدتي، ابتسمت وصمتت. أقصد لم يكن يخرج من ذهنها كلام ليتلقاه ذهني.
أتيحت لي هذه السنة فرصة أن أقابل نيكول. نيكول سيدة فرنسية قابلتها في فرنسا من ثمان سنوات، سنتها كانت قد فقدت زوجها. هذه السنة، فقدت ابنها. قالت: أولا أبي ثم زوجي ثم ابني. يبدو أنني تحررت من الحلقات الثلاثة، أو لنقل الدوائر التي تمثل قارات العالم القديم.
لم تكن نيكول تقول هذا بأي فرحة. كانت عيناها مغرورقتان. لكنها لم تدمع أيضا. شعرت ساعتها إنها الشخص المناسب في اللحظة المناسبة بالنسبة لي للإجابة على هذا السؤال. سألتها بذعر:
- "نيكول؟ أين ستذهب الذاكرة؟ أعني عندما نموت. نموت كلنا، كل البشر والحيوانات والنباتات والحشرات والطيور، عندما تموت كل الأشكال الحياة، حتى الباكتيريا، أين ساعتها ستذهب الذاكرة؟!!!
أجابتني نيكول بعد أن مسحت عينيها وعادت إليها ابتسامة تشبه ابتسامة جدتي لحظة ما سألتها السؤال ذاته، وقالت بخفة، لكن بدون أدنى استهتار:
- وهل سيكون هناك من يتذكر؟






صيد يستحق

بعد أن رحل عبد العزيز أول مرة، مع سماح على متن الأسطول الخاص ببلادهم، تملكني شعور مختلط. وكأن صخرة كبيرة تم تنتزاعها من داخل البيت، مما جعله يبدو أوسع. أو كأن كائنات البيت التي صار وجودها هامشيا وأحيانا تنحت تماما عن الظهور في وجوده، بدأت تتنفس من جديد. شعور سعيد بالطزاجة، وكأنه حمام ماء بارد تحت شلال صاف بين نخل جوز الهند. شعور يشبه سندريلا بينما تغني لحيواناتها في الغابة قبل مقابلة الساحرة التي ستحول أثمالها إلى رداء جميل. لكنه ايضا بعد فترة، شعور بفقدان شيء ما. شيء كان "يملأ الهواء".. الهواء الآن فارغ. هل الهواء الآن فارغ فعلا؟ لماذا إذا شعرت بفقدان شيء وليس بافتقاده؟! أنا عموما لست مؤهلة لفترات ما بعد الوداع.. آه! هناك شيء نسيت أن أذكره، وهو أنه عندما التقيت بعبد العزيز كنت منفصلة عن حبيبي، الذي صار زوجي الآن وابو أطفالي. لكن هذا أمر لا يهم. فقد غادر عبد العزيز – أخيرا – بدأت ألتقط أنفاسي. عاد الأسد ذو بتلات عباد الشمس إلى مكانه. لم أر التمساح الحارس لفترة. لكن أثاث بدأ يحاورني من جديد، والشجر والحيوانات والجليد والسحي والمطر، كذلك البرك الصافية والجداول العذبة، الجبال الحمراء والسوداء القاحلة.. الخ. نعم وكان هذا أمر جديد قد حل بالبيت. صار البيت يعج فجأة بكل أشكال الطقس والجغرافيا! وكأنه كرنافال للطبيعة على سطح الأرض. كنت سعيدة لأن البيت سعيد. لكن كان هناك فراغ ما في دماغي، في قلبي، لا أعرف، كل ما أعرفه أنه فراغ بداخلي، لكن اين بالتحديد؟ لا أعرف.
ذات ظهيرة، جلست على كنبة الصالة. لا أعرف إن كنت قررت، أو اعتبرت، أو أن هذا حدث من تلقاء نفسه، كون هذا الفراغ صار يشبه حالة إفراغ الذهن في تدريب يوجي عميق. شعرت بالرضا عندما وصلت إلى هذه النقطة.
كنت أجلس على كنبة الصالة حين ظهر هذا العجوز أول مرة، بعباءة بنية من الصوف أو الوبر، لها غطاء رأس محكم بحيث لم أستطع أن أرى وجهه كاملا أبدا: لم أستطع أن ارى عينيه.
كان وجوده بديهيا ومطمئناً كأب. يظهر وييختفي على فترات. غالبا ما يظهر في المغارب أو قربها. بدأت أستأنس لوجوده، حتى عندما لم يكن يظهر. كنت أعرف حتى وأنا في أقصى المطبخ، أن الركن الشرقي للصالة صار يشبه إناءً شفافاً غير مرئي، تنصب فيه وتفرغ من حين لآخر، حكمة ما. صامتة. مصلية. نعم، الركن الشرقي.


حتى ذلك الحين كانت كل الأشياء تأتيني من الشمال الشرقي، أي من اقصى ركن في المطبخ، بين الحوض والبوتاجاز، بين الماء والنار. أما هذا الحكيم، فقد ظهر في الشرق، أقصد في شرق الصالة، الصالة التي تقع في مركز البيت. ظهر في الشرق ووجهه إلى الغرب. ساعتها كنت أعرف عن السامانية. وكنت أعرف أن الشرق اتجاه الحكمة والإشعاع الروحي، وأن الغرب يمثل رحلة الساماني، الساماني الفرد، في ذاته، داخل العالم وذاته، إنها رحلته الفريدة التي لا تخص معه إي ساماني آخر. بدأت روحي تهدأ، وتعتاد عدم خدش الهواء أثناء الحركة، ليس فقط بسبب احترام الهواء الذي يسمح لي باختراقه، لكن أيضا بدأ ينبت في داخلي شعور باحترام هذا الجلد، هذا الجسم الذي يخصني والذي به أعبر الهواء، والذي هو أيضاً، ينبغي الحرص عليه، من أن ينخدش بالهواء في حركة مفاجئة: بدأت أحس بوجودي، وأعتد به، بدون كبرياء. لكن شيئاً لم يحدث.
فكرت أنه ربما شيء ينتظرني أن أحدثه. بدأت أجلس على كنبة الصالة وأحاول استحضار هذا العجوز. لم يكن يظهر في كل الأحيان. لذا فقد توقفت عن هذه المحاولات بسرعة. ذات يوم كنت في محنة شديدة، ظهر لي في الركن ذاته دب بني كبير واقفا على قدميه، وعاقدا يديه بالطريقة ذاتها التي يعقد بها العجوز الحكيم يديه. تذكرت الدب الذي ظهر لي في الحلم وأنا طفلة، لكنني لم أربط بينه وبين العجوز، اللهم لون العباءة، الذي هو بلون فراء الدب.
نفضت الأمر كله عن ذهني وذهبت لأنام في حجرة نومي، هذه المرة وليس في الصالون كما كنت أفعل من قبل. استيقظت وسط الليل، فوجت خيمة في منتصف الصالة، منصوبة بابها القماش موارب، وهناك ضوء برتقالي ينبع من منتصفها. تفاديت أوتادها في طريقي إلى الحمام.. ثم عدت لحجرتي لأكمل نومي. كان باب الخيمة ينفتح على الشرق.
في الصباح استيقظت على جلبة بينها ميزت صوت فتاة تقول (لا أعرف بأية لغة لكنني فهمت): "عودوا سالمين واجلبوا لنا صيداً يستحق!" فتحت باب الحجرة فوجت فتاة قمحية اللون بشعر طويل أسود ناعم ومدهون تقف في الجنوب وتتجه برأسها للشمال. في الشمال، حيث كنبة الصالة) كان هناك أربعة شبان يسرجون ستة كلاب متوسطة الحجم ذات فراء وشعر بني، يسرجونهم في عربة تبدوا كعربات الصيد أو التزلج على الجليد. كانت الخيمة ماتزال منصوبة. أمكنني أن أستشفّ بداخلها طاولة مستطيلة رفيعة وطويلة، من الخشب، عليها علب مستطيلة من الزجاج، داخل العلب أشياء لم أتعرف عليها من هذا البعد، أي من خارج الخيمة!، وفوق العلب الزجاجية كانت هناك أشياء أيضاً. كل هذا في قاع الخيمة عند الطرف الغربي، العجوز داخل الخيمة ظهره لمدخلها، يستعد للقيام بفعل ما مرتبط بهذه الطاولة وهذه العلب الزجاجية، كان ما يمكن استنتاجه من هذا الشكل هو أن بداخل الخيمة معمل، وأن العجوز كيميائي ما. وبما أن أحدا من هذه القبيلة الساكنة في الصالة لم يتداخل معي، فأنا أيضا لم أتداخل معهم. تركتهم على حالهم وذهبت إلى العمل.

خطر في بالي أن ظهور العجوز المتكرر قبل المجيء بقبيلته كانت مجرد طلعات استكشافية للمكان الذي سيعسكرون فيه، وأنه إن لم يكن المكان المناسب فإنه سيختفي تماما ويذهب للاستطلاع عن مكان آخر. لكنني أتبين ساعتها سبب هذا التعسكر. لم أهتم كثيراً. فرحت أن البيت مازال يمكنه أن يعيش حياته برغمي، وأن يستدعي ويستضيف.. كان بيتاً حراً، وكنت أحترم فيه ذلك.

عند عودتي من العمل كانت الفتاة تصنع قناعا من الريش وهي جالسة عند باب الخيمة، ظهرها لظهر العجوز الجالس داخل الخيمة. بينهما باب الخيمة مواربا يحتك بطرفه ظهر كل منهما وهو يستند على الآخر. ريشات حمراء ذهبية وفضية ونحاسية وصفراء وسوداء من ناحية، ومن ناحية أخرى شمعة من الدهن بنار برتقالية مكثفة تكاد تكون بملمس القماش.
عاد الصيادون الشبان بكلابهم فأخفت الفتاة القناع في ملابسها بسرعة. أوقدت نار الحطب أمام الخيمة. بينما العجوز مازال أمام شمعته يصلي. كانت معالب الرضا والفخر ظاهرة على وجه الفتاة كذلك على وجوه الشباب وقد اصطادوا دباً أسمراً. سلخوه. سلخ العجوز الدب وأخذ الفراء داخل الخيمة، وكذلك الرأس والأحشاء. أما اللحم فقد أقام به الصيادون والفتاة وليمة ضخمة على نار مدخل الخيمة.
وبينما هم يحتفلون ويأكلون، كان العجوز يطحن العظام، يتلي الصلوات، يدهن الفراء بالملح والثلج، يفرغ الرأس، يستخرج الجمجمة ويدهنها ويغسلها بمستحضرات من معمله الزجاجي، ثم يضعها فوق الشمعة فتصبح جمجمة مضيئة من الداخل بنار بلون الياقوت والكهرمان. يجفف الأمعاء ويضعها في العلب الزجاجية، يفعل ويفعل دون توقف أشياء لا أفهمها، مثلما لم أفهم لماذا خبأت الفتاة القناع الذي كانت تصنعه عند عودة الصيادين. عندما قارب العجوز الانتهاء مما يفعل، أعطى من داخل الخيمة إشارة بيده، مازل ظهرة لباب الخيمة. تلقت الفتاة الإشارة، فدخلت في مزاج مختلف تماما. آمر وجاد ومنسحب في آن، وكأنها أدركت فجأة سر الموت والحياة! أمرت الشباب بإشارة من يدها، فجلسوا حول النار، يعونهم متطلعة إلى الفتاة التي بدأت ببطء وترنح ترقص للنار. رقصة طويلة، وكأنها آخر رقصة! بأثمالها السوداء كغراب منتوف الريش، القناع في يدها يشبه طائر الهدهد بريشاته الملكية على الرأس، ترقص معه. بدت لي ساعتها أنها برأس فارغ، جمجمة بلا حواشي. تتحرك بفعل حبال تربطها فيزيائيا بمخ العجوز داخل الخيمة. إنها وسيطته للقبيلة. لا أحد غيرها يجلس إليه ظهرا لظهر. بدا الرقص ثقيلا. جلس الشبان عند كنبة الصالة، فشعرت بضيقها حولي. تركتها وأخذت أتفقد اي الأماكن في الصالة فارغ لأقف فيه، لو أجد سوى المكان الذي كان يقف فيه العجوز من قبل. وقفت هناك. بيني وبين خيمته نار الحطب ولحم الوليمة والراقصة بأثمال الغراب في يدها قناع الهدهد. تذكرت ساعتها أنني في أول رؤاي للعجوز كنت أجلس على الكنبة وأنظر أمامي، في هذا الاتجاه الذي رأيت فيه الفتاة أول مرة، كنت أنظر لأفرغ رأسي. الآن، من مكاني الشرقي برأسي متجها لغرب، أقف مكان العجوز، الذي يخرج من خيمته، يعبر الفتاة كأنها خيال، ويعبر النار، ويقف خلفي. يصلي ويضع علي جسمي فراء الدب وعلى راسي جمجمته، الفراء والجمجمة اللذان يمتصها جلدي ما إن يوضعا عليّ. أحس بهما على مسافة نصف سنتيمتر من جلدي الخارجي. يدهنني بتراب عظام الدب ويفركني بأحشائه الجافة، ثم يضع عليّ عباءته. هنا يستعيد الحفل ابتهاجه، وتبدأ رقصات الفتاة تعلوا يأخذني العجوز داخل الخيمة بينما الرقص والحفل بالخارج، يجلسني أمامه وبيننا الشمعة. نقوم بحركات كأننا المرء وظله في المرآة. يعطيني الشمعة، أخبئها في عباءتي التي كانت عباءته، فتختفي داخل جسمي هي الأخرى. بينا هو، يستلقي داخل علب الزجاج. أخرج للقبيلة، بوجه متجهم ومذهول. وقد فهمت. فتقابلني الفتاة قبل أن يحاول أي من الشباب يستفهم مني، وتضع على رأسي قناع الهدهد، الذي لا يذوب داخل جمجمتي مثلما حدث مع رأس الدب. يبقى هو القناع الخارجي، تقول لي: "قناع المرح والخفة!" فأفهم أكثر. وأكمل معهم الرقص والاحتفال، وأناأعرف أنني في داخلي شيء آخر.
بعدما ناموا. ناداني العجوز من غرفة إنعاشه الزجاجية. أخرجت الشمعه ذات الدهن ولهب البرتقالي، أحرقته واستنشقته، ونمت مكانه. في الصباح وجتني ناسمة في وسط الصالة، وقد رحلت القبيلة بفتاتها وشبانها وكلابها وخيمتها. بعض آثار حرق صغير جداً على موكيت الصالة، مكان حطب الوليمة المشتعل.






العَقد

كنت على كنبة الصالون مستلقية؟ نائمة؟ كان الوقت ليلا. وكنت قد تركت نور الحجرة مضاءً. سمعت طرقاً على باب الشقة. قلت في ذهني الباب مفتوح. فدخل ستة ظلال على شكل هرم أفقي أو سرب حمام. قال لي قائدهم شيئا سمعته ولم أفهمه. وفطلب من أحد معاونيه شيئاً فأخرج الآخر من داخله رول من الشاش يشبه رول ورق التواليت. فرده القائد على مكتبي وكتب عليه الشيء ذاته بحروف فهمتها في الحلم، لكنها في الحقيقة حروف لغة لا أعرفها. عرفتها في الحلم ووافقت في الحال بأن وقعت باسمي –باللغة ذاتها – على الشاش. كان بمثابة عقد ما. قطع القائد هذا الجزء من الشاش. اعاد الشاش لمعاونه وأدخل الجزء الخاص بي في جسمه الذي هو من الظل.
ذهبنا معا إلى مقابر البساتين حيث مقبرة عائلة أمي. السور المعدني الأخضر ببابه المقفول. وأمامه ستة كلاب بوليسية متوحشه تنبح في وجهنا وتمنعنا من الدخول. أعطاني القائد الشاش الخاص به فوضعته ككوفيه على رقبتي. هنا نخ الكلاب كأنهم جراء مستأنسة وبدا الباب مواربا وليس مقفولاً. أوضع لي القائد بدون كلام أنه ينبغي أنأدخل وحدي. دفعت الباب ودخلت. نزلت سلالم المقبرة. في القاع كان تابوت حجري عليه غطاء موارب من الحجر أيضا. بداخله جثتي وقد بدأت تتحلل، وقماش الكفن مهتريء، وعند القفص الصدري مشقوقة عظامه من جهة القلب وكأنما بسكين. نظرت داخل الشق، لم يكن القلب موجوداً. ارتعبت. صليت على روحي وخرجت.

لطالما اعتبرت أن الكلاب الست هي حراس المقبرة وأنهم لم يدخلوني إلا عندما تأكدوا بسبب هذا الوشاح من الشاش أنني أنا صاحبة المقبرة. طالما تخيلت أن الشق في قفصي الصدري يعني أنني سأموت مطعونة بسكين، طالما تخيلت أن عدم وجود القلب بالداخل يعني أن أنوبيس قد أكله وأنني ستبقى روحي هائمة بلا عودة ولا بعث. وكنت مرعوبة، لكنني كنت راضية على كل حال، بكل حال، بما أنه لم يحدث بعد!.

بعد اكثر من أربع سنوات على هذا الحلم، اي هذا العام، وفي الأسكندرية حيث أقيم الآن، قابلت سيدة بدون مناسبة على المقهى. جلست بدون استئذان إلى طاولتي. بعد اربع سنوات. وقالت: "رأيتي قبرك؟" لم تكن تبدو سائلة، كانت وكأنما تستهل كلامها بهذا السؤال. قلت: "نعم"، فقالت: "ينبغي إذا أن تورِّثي في حياتك." سألتها : "وما معني هذا؟ أن أكتب ميراثي بيع وشراء في حياتي؟!"، نظرت لي باستخفاف وكأنني أتغابى (وقد كنت أتغابي فعلاً) وقالت: "انت ميتة. إذا ما في يد، للحي. لا تصدي سائل، ولو في يدك كوب الماء الوحيد على ظهر الأرض وطلبه منك أحد، فاعطيه." ثم أكدَّتْ: "أنت ميتة" ورحلت.

بعد ذلك بأقل من أسبوع ذهبت إلى القاهرة لإتمام إجراءات سفري إلى مهرجان شعر بفرنسا فتصادف أن رأيت أيمن. صديقي الشاعر الصوفي. أخبرته بالحلم وبالسيدة لكنني لم أخبره بخوفي من تأويلي للحلم. وتصادف أنه كان له تأويل آخر. غير مخيف.
قال لي أيمن أن رؤية المرء لنفسه ميتا في قبره نعمة من الله ونوع من البصيرة وقف أعداؤك في صورة كلاب ليمنعوك من الوصول إليها، أما اللغة في الوشاح فهي يمكن أن تكون السيريانية القديمة التي أبطلت مقاوتهم لدخولك. عدم وجود قلبك في القفص الصدري يعني أنه مازال ينبض في مكان آخر، في جسدك الحقيقي، الجسد الذي رأيته في الحلم هو موت افتراضي لك يقربك اكثر من حقيقة الموت الذي هو سر لا يطلع الله عليه كل عباده. هذا هو السر، ولكل سر بِر، أي كلما عرفك الله سرا كلما طالبك مقابله بعمل يسمى البر، جاءت هذه السيدة لتخبر بالعمل الذي ينبغي أن تقومي به مقابل هذا السر، وهو ألا تصدي أي من يطلب منك شيئاً.




حالتي الصحية

كنت أدخن ثلاث علب سوبر في اليوم. أعصابي متوترة. بل وأعصاب جسمي نفسه بحيث بدأت يدي ترتعش. كنت غاضبة ذلك اليوم. وكنت نائمة على كنبة الصالة في شقتنا في الزمالك التي انتقلت إليها مع زوجي لفترة قليلة أثناء قيامه بأعمال ديكورات في الزمالك. رأيت نفسي في حقل أخضر بلون البراعم. في يدي ملف أبيض به صور أشعة. توجهت إلى البيت الأبيض الجيري الوحيد الموجود وسط هذه المروج. كانت في انتظاري طبيبة بزيها الأبيض شعرها أسود خشن وقصير، بيضاء وممتلئة بعض الشيء. أعطيتها الملف ومددتني على سرير قربها. وضعت في كل يد لها شيء يشبه مكواه صغيره وأوصلته بالكهرباء. وضعتها على صدري، بحيث امتصت كل مكواه من إحدى رئتيّ كل ما فيها من دخان وقطرات. رأيت الدخان الأسود الكثيف يصعد. وأحسست برئتي تنتعشان. كانت على فمي وأنفي كمامة أثناء هذه العملية وكذلك على فم الطبيبة وأنفها. بعد ذلك سألتني بابتسامة: "نتفقد أحوال القلب؟" وضعت يدها ناحية قلبي وأخذت تحرك أصابعها كأنما تحاول اصطياد شيء ما. قال: "لا يمكن يدويا، ينبغي أن نعمل عملية أخرى، لكنك لن تتحملي عمليتين في مرة واحدة، لذا سأكتفي هذه المرة بتحجيم الثقب بحيث لا يتسع ووقف الشريان مؤقتاً من الانسداد. كنت أتمنى لو سألتها أي ثقب واي شريان، لكنني في الحلم لم أسأل، وكأنني أعرف حالتي جيداً! المهم، أوصلت سيلكا ابيضا بالكهرباء، في نهايته شيء يشبه الفيشة الدائرية بعموديها المعدنيين. أدخلت هذا الشيء في صدري ناحية قلبي. شعرت بلسع نار وكدتُ أنتفض لولا أنني بدأت أشعر أن الألم في قلبي يقل.
جلست على السرير حتى تكتب لي الروشتة. وبينما تكتب قالت لي:
"النار زائدة في جسمك. هذا غير متوازن. اشربي الكثير من الماء، أكثر من 3 ليتر يوميا، خذي معك حيثماأنت زجاجة ماء، وكلما شعرتِ بالغضب، اشربي. امنعي النار في طعامك لمدة عشرة أيام، لو استطعتي منعها لأسبوعين ستكوني بطلة!، كلي ما لم يمسه نار. أتمنى لو أستطيع منعك من السجائر، لكن أعرف أنك لن تنفذي هذا ، أرجو أن تقلليها، إلى ألا تزيد عن عشرة سجائر في اليوم.

استيقظت وانا أضحك! ما هذا الحلم الذي يشبه برنامج طبيبك الخاص! دخلت الحمام لآخذ دش. وعندما خلعت ملابسي، وجدت علامة دائرية بها نقطتان على صدري عند قلبي، علامة تشبه حرق الوشم على شكل فيشة الكهرباء التي وضعتها لتحجيم الثقب والتوسيع المؤقت للشريان. زالت العلامة بعد اسبوعين، عندما أتممت النظام الغذائي المطلوب.




أراني أراها

حلم لن أنساه. حلم كالومضة. دائماً امرأتان واقفتان بلا تعبير على الوجه. صورة تتبدل لامرأتان بالترتيب التالي
إيزيس ونفتيس
جدتي لأمي وجارتها
جدتي لأبي وأختها
السيدة زينب والسيدة نفيسة
خادمة أمي (أختها في الرضاعة) وأمي
أنا وأختي
ابنتي وابنة أختي
فهل هذا قدر محتوم؟





حلم آخر ومضة أيضا

جالسة على شط البحر ليلا، امشط شعري. في الحلم كان شعري طويل، ضعيف وبني، وقد غزاه بيض الحمام لدرجة أنني كلما مشطته سقطت منه أطناناً من بيض الحمام. كنت أفرق شعري من المنتصف، وكان كل شيء على يمين الحلم يشبه كل شيء على يسار الحلم. كأنني نصف فقط، ملتصق بمرآته. لولا المشط في يدي اليمنى، ولا شيء في اليسري، لكنت اعتقدت في ذلك اعتقاداً.




ورأيت روحي بجعة

جسدي ثقيل. لا أقصد هذا الجسد الذي يحملني ويشير إليه الناس ويعرفون أنني هنا عندما يروه. أقصد، مادتي. لهذا عندما حلمت أنني في بئر من الزيت كأنه البترول، مستلقية ومستسلمة افتح شراييني لأعيد تدوير وصلاتي الفيزيقية، لم أتعجب. انتبهت فقط، عندما وجتني أصعد من هذا البئر تحملني البقرة حتحور، بعد إتمام علمية الشحن. عندئذ فقط عرفت أنه ليس كابوساً. وأنه اقتراح من حتحور التي أحبها لترجة التماهي أحياناً، اقتراح منها وسماحية أن استخدم بئرها لتعديل ما تلف من مادتي.
صرت أفعل ذلك فعلا، عن عمد بعد ذلك الحلم. أستلقي في منتصف الصالون، على الأرض، حيث حلمت هذا الحلم أول مرة، وأغمض عيني وأستسلم للبئر.
لكن روحي شقية، عفريتة صغيرة. ذات مرة كنت في البئر نائمة، فوجت جسمي يخرج منه وكأنه تمثال من الحجر، مثقول بعناية وشديد الأنوثة، شعري أسلاك بلاستيكية غارقة في الزيت ولامعة كالفضة. جسمي يخرج وكأنما يتم انتشاله كأثر من بحيرة ناصر. ويبتسم لي. عرفت أن هذا لم يكن جسم مادتي. كان جسم روحي الشقية تدعوني لنلعب الغميضة. عندما فهمت ذلك اختفى الجسم وطار وشاح ابيض شفاف في الهواء ثم اختفى هو أيضا لتحل محله ثلاثة نماذج لأسود. اسد ذهبي كبير بعيون من زجاج، حقيقي ومريض أقصى اليمين، أسد متوسط الحجم كدمية من الصوف والقماش بعيون حقيقية وبطاريات، وأسد ثالث صغير عرفت من نظرته أنه هو روحي متخفية تلعب معي اللعبة! جريت خلفه فطار، تحول إلى بجعة بيضاء ضخمة أخذت تتكثف وتصغر إلى أن صارت تشبهطائر أبو قردان طارت ووقفت على شعري البلاستيكي الذي على وجهي الصخري الذي تم انتشاله من البئر كأثر قديم.





فهرس
1- أحلامي
2- باب العالم ونافذته
3- موسى يخطط حربا
4- أستطيع أن اراني
5- اللعب بالظل
6- الجنة والخديعة البيضاء
7- رسم الحدود بحبل
8- ذكريات
9- شرب الدم
10- باب الخيال
11- أميرة الجنوب
12- رحلات زمانية ومكانية
13- الآسكندرية – بنغازي
14- بنغازي – طرابلس
15- مسألة جغرافيا
16- طرابلس – القاهرة
17- التمساح الحارس
18- العسل المسكوب
19- قطة بيضاء وقطة سوداء
20- مراوغة
21- التوهان عن عمد
22- قطة الشارع السوداء
23- مناورات بين وحشين تنتهي بسلام
24- الخروج للشارع
25- الطريق إلى الاسكندرية
26- سماح
27- حوار ثلاثي ببعدين
28- سلام
29- الظهور الأخير لعبد العزيز
30- ثم ماذا؟
31- صيد يستحق
32- العَقد
33- حالت الصحية
34- اراني أراها
35- حلم آخر ومضة أيضاً
36- ورأيت روحي بجعة